عدو الفساد
بغض النظر عن الأخبار، هناك روح من العداء للفساد فى عهد الرئيس السيسى، الأسباب متعددة، منها الاستقامة الأخلاقية للرئيس والدائرة المحيطة به، منها اعتناقه عقيدة العسكرية المصرية واعتقاده بأن الثوب العسكرى يجب أن يبقى بعيدًا عن أى دنس، منها أيضًا فهمه العميق لأسباب سقوط الدولة فى ٢٠١١، وأن التعايش مع الفساد هو المعول الأول الذى يهدم شرعية أى نظام، ويعطى الفرصة للإرهابيين والفوضويين لتقويضه.. يعرف الرئيس، أيضًا، أن الفساد الحكومى إحدى أدوات تشويه سمعة مصر فى الخارج، وإحدى حجج منع الاستثمارات الأجنبية من العمل فى مصر، بشكل ما ينتمى الرئيس لعقيدة تؤمن بأن الفساد والإرهاب هما أكبر عدوين للدولة فى مصر، ويضرب كليهما بيد من حديد، على المستوى الرسمى تقدمت مصر درجتين فى مؤشرات مكافحة الفساد خلال وقت قليل، لكن الحقيقة أن الطريق مازال طويلًا، مشكلة الفساد والتطرف أنهما تحولا خلال أربعين عامًا إلى شبكات مصالح تحتية، كيانات أقرب إلى جبل الجليد فى المحيطات، الجزء الظاهر منه أقل بكثير من الجزء الخفى.. الأجهزة الرقابية تضرب الجزء الظاهر، لكن الجزء الخفى مازال تحت المياه، يحتاج إلى نيران عالية جدًا لتذويبه، أرسل الرئيس رسائل واضحة جدًا للجميع منذ توليه، كانت أهميتها فى رمزيتها، ألقت الأجهزة الرقابية القبض على أحد الوزراء عام ٢٠١٥ فى ميدان التحرير، وقيل إنه كانت هناك رغبة فى القبض عليه داخل مجلس الوزراء نفسه، وكان المعنى أنه لا حصانة لأحد.. المشكلة أن هناك تراكمًا تاريخيًا للفساد فى مصر، وأن أشكاله متنوعة، هناك فساد الوزراء والمسئولين فى عهد مبارك، والقضايا فى هذا الشأن كبيرة، وقد تمت تصالحات بمبالغ مرعبة فى القضايا التى فتحت بعد ٢٠١٣، والتصالحات ليست دليل براءة بقدر ما هى محاولة لإعادة الشىء إلى أصله وتقليل الضرر الذى وقع على الدولة جراء الفساد.. أحد وزراء الإسكان فى عصر مبارك دفع مبلغ تصالح يفوق المليار جنيه! وهو ما يدفع للتساؤل عن حجم ثروته الحقيقية وعما سرقه بالفعل.. والمدهش أن الرئيس الأسبق كان يحب الرجل جدًا، وكان يتم وصفه بصفات مثل «المجرى» و«البلدوزر»، وقد اتضح أنه بلدوزر فساد بالفعل!، كانت الأزمة أيضًا أن هناك نوعًا من الفساد أسماه الأستاذ هيكل بالفساد المقنن، أى المحمى بقوة القانون.. قرارات رسمية بمنح آلاف الأفدنة لرجال أعمال بعينهم بأسعار رمزية، تتحول إلى منتجعات سكنية بمئات المليارات، استعاد الرئيس السيسى كل ما أمكن استعادته، وأجبر البعض على دفع ثمن ما استولى عليه، وقيمت الأرض بأسعارها الحقيقية، لكن ما حصلت الدولة عليه كان هو ما يمكن استعادته وليس كل ما تمت سرقته، من أشكال الفساد أيضًا الحصول على رشاوى لإلحاق البعض بالوظائف الرسمية، فى عام ٢٠٠٠ حققت فى قضية غريبة للغاية، محام شاب كان متهمًا بانتحال صفة نجل مسئول مهم جدًا فى عصر مبارك، الغريب أن المحامى كان يحمل بطاقة شخصية يتطابق فيها اسمه مع المسئول حتى الجد الخامس، وكان بالصدفة البحتة يشبهه حد التطابق، والصدفة الثالثة أنه كان صديقًا حميمًا لأبناء الوزير المعلنين، ويتواجد معهم فى كل مكان، ووفق كل هذه الصدف المتتالية كان يحصل على رشاوى من الراغبين فى إدخال أبنائهم بعض الكليات المهمة أو تعيينهم فى بعض المناصب المهمة، وكانت الصدفة الرابعة أن الذين يدفعون الرشاوى كان يتم تعيينهم فعلًا! وقد قيدت القضية على أنها قضية نصب وانتحال صفة، ثم منع النشر فيها بقرار عرفى، ولولا أننى قابلت المتهم فى النيابة وحققت فى القضية بنفسى لاعتقدت أنها قصة خيالية أو مجرد طرفة يصوغها معارض خفيف الظل، والحقيقة أن الموضوع كله كان يدور فى إطار خفة الظل وهو ما دفع الرئيس الأسبق لأن يخاطب الوزير بطل الواقعة قائلًا «كرشك كبر قوى يا فلان».. فى إشارة إلى أنه لا شىء جادًا فى الموضوع كله.. هذه المشاهدات وعشرات غيرها تجعلنى أقول إن الفساد هو أقوى حزب فى مصر، وهو حزب له ممولون ومتحدثون إعلاميون، وعملاء سريون، وطابور خامس وسادس أيضًا، لكن معول الدولة المصرية قوى وحاد وتمسك به يد قوية، وسيوجه الضربة المناسبة فى الوقت المناسب.. حمى الله مصر من أعداء الداخل.. أما أعداء الخارج فهى كفيلة بهم.