قراءة جديدة فى صحف قديمة نادرة: دراما التاريخ والبشر
مصر «محافظة» والتليفون أرقام وحروف.. والموضوع الرئيسى عن «أبو الدساتير»
هجوم على «الدستوريين الأحرار».. وتغطية لاحتفال «كلية البنات الأمريكية»
بينما تقرأ أنت الجريدة الجديدة الخارجة من المطبعة حديثًا، تجدنى فى الصباح أقرأ جرائد مر على طباعتها سبعون أو ثمانون أو مائة عام. جرائد تصدر منها رائحة عطن ما لكن بالتعود يصبح هذا العطن نوعًا من العطر المميز.
ضربت مثلًا بالجرائد، لكن ما أعنيه فى العموم هو الأوراق القديمة، أوراق ليست بالضرورة رسمية، لكن مجرد أوراق شخصية أو مكاتبات تعود إلى زمن ما لن يعود، وبالتالى فإن هذه الأوراق هى بوابتك إلى هذا العالم المجهول.
وأنا أستمتع بقراءة هذه الأوراق ليس كمادة جافة، لكن كأنها مادة درامية تتحرك من أمامك على شاشة ضخمة تحتوى على التاريخ والجغرافيا والبشر، وأعتقد بشدة فى قوتها السردية كأنها رواية لم تكتب، بحسب مقولة الروائى وعالم الاجتماع المكسيكى الشهير كارلوس فوينتس: «تحكى الرواية ما لا يذكره التاريخ».
اليوم أخرجت مجموعة من الجرائد التى اقتنيتها عبر سنوات، وقررت أن أتجول بينها فى جولة للتعرف عليها.
«الوادى» 23 أكتوبر 1930
أقدم الأعداد عدد من جريدة «الوادى» بتاريخ ٢٣ أكتوبر سنة ١٩٣٠، يعنى قبل ٩١ سنة. أول شىء أقرأه «الترويسة»، وفيها يُذكر أن عنوان الجريدة هو: «شارع الساحة بأول الفوالة بمصر»، و«مصر» هنا المقصود بها القاهرة أو محافظة مصر كما كانت تعرف وقتها.
تليفون الجريدة هو: «١٠٠ بستان»، وهذا يذكرنا بتليفونات زمان حينما كانت تكتب عليها أرقام وحروف، و«١٠٠ بستان» بالتأكيد رقم مميز جدًا. رئيس التحرير المسئول هو عبدالحميد حمدى، ولا توجد معلومات عنه على متصفحات البحث الإلكترونية.
عدد الجريدة ١٠١ والسنة هى السنة الأولى، إذن كانت جريدة يومية. أما «فونت» الجريدة وتصميم عنوانها فقد كتب أسفله: «كتبه محمد إبراهيم»، وأول تساؤل إن كان محمد إبراهيم هو ذاته الخطاط السكندرى الشهير الذى أسس مدرسة لتعليم الخطوط فى الإسكندرية سنة ١٩٣٦.
وبالبحث تبين أن محمد إبراهيم «مواليد الإسكندرية سنة ١٩٠٩» قد التحق بمدرسة الخطوط الملكية فى القاهرة سنة ١٩٢٩، ودرس بها ٤ سنوات على يد أساتذة الخط الكبار مثل: الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعى، والأستاذ محمد رضوان على، والشيخ على بدوى رضوان، والأستاذ محمد حسنى البابا، وغيرهم الكثير، وتخرج بالترتيب الأول سنة ١٩٣٣. وبالتالى تصميم «فونتات» الجريدة وعنوانها كان لـ«محمد إبراهيم» وهو طالب.
عدد الجريدة نفسه فى اعتقادى مهم، لأنه ببساطة وثيقة لما عرف بـ«انقلاب الملك فؤاد على دستور ١٩٢٣»، الذى يعرف بـ«أبوالدساتير المصرية»، وذلك من خلال حكومة إسماعيل صدقى، والجريدة تنشر الدستور الجديد «دستور ١٩٣٠» ليطلع عليه القراء، كما تنشر مذكرة وزارة صدقى باشا التى «حاولت بها تبرير ما عدلته فى الدستور، وشرحت الأسباب التى دعت إلى التعديل»، وفق الجريدة.
والجريدة إذ تنشر الدستور ومذكرة الحكومة إنما بذلك تحقق سبقًا صحفيًا مع ذكر أنه ستكون للجريدة ردود على المذكرة ونصوص الدستور الجديد، وهو ما معناه ضمنيًا أن الجريدة غير راضية عن الدستور الجديد، وهذا يظهر إذا قرأنا العناوين: «حل البرلمان بمجلسيه والسلطات جميعًا فى يد الملك إلى أن يعقد البرلمان الجديد»، فى إشارة إلى إطلاق صلاحيات مطلقة للملك فؤاد، وهو ما أثار غضب المصريين وقتها، مطالبين بعودة دستور ١٩٢٣، حتى عودة العمل به بالفعل سنة ١٩٣٤ بعد عزل الملك فؤاد لـ«صدقى باشا» من رئاسة الحكومة فى السنة السابقة.
«اليوم» 24 مايو 1930
مازلنا فى سنة ١٩٣٠ وجريدة أخرى مجهولة هى «اليوم»، وتحديدًا عدد ٢٤ مايو ١٩٣٠، و الجريدة كما هو مذكور صاحبها ومدير سياستها هو محمد توفيق دياب، الذى كتب مقاله الرئيسى على ثلث الصفحة الأولى تحت عنوان: «هذيانهم لا يفنى»، وتضمن هجومًا لاذعًا على حزب «الدستوريين الأحرار».
بينما خُصص ثلثا الصفحة الآخران لمشروع اتفاق مصرى إنجليزى، مثل فيه إنجلترا وزير خارجيتها هندرسون، ومثل فيه مصر محمد محمود باشا، الذى هو نفسه كان من بين الخارجين من عباءة حزب «الوفد» بزعامة سعد زغلول، ليؤسس مع مجموعة من رفاقه حزب «الأحرار الدستوريين» سنة ١٩٢٢.
ولا نحتاج لكثير من الجهد لنعرف أن محمد توفيق دياب وفدى الهوى، وكيف لا وسعد زغلول كان صاحب أفضال عليه بعد عودته من إنجلترا، والجريدة تنشر كذلك بيانًا رسميًا من الحزب بأسماء مرشحيه لعضوية مجلس الشيوخ كدعاية.
وبالإضافة إلى السياسة لفت نظرى موضوعان، الأول عن بعثات وزارة الزراعة وعددها ٢٢ بعثة إلى بريطانيا وأمريكا، ونشر أسماء المبعوثين بها، والثانى عن الاحتفال السنوى لكلية البنات الأمريكية فى ذكرى تأسيسها الـ٢٠، التى أصبحت بعد ثورة ١٩٥٢ «كلية رمسيس للبنات».
ويذكر هذا الموضوع أن المدرسة توجد فى شارع «الملكة نازلى»، وهذه معلومة مذهلة فى حد ذاتها، لأن الشائع أن ما يعرف الآن بـ«شارع رمسيس» قد سُمى كذلك فى عهد الملك فاروق، لكن الجريدة هنا تثبت أن الشارع سمى باسم الملكة فى عهد زوجها المتيم الملك فؤاد.
حضر حفل المدرسة قرابة ١٠٠٠ مدعو، ومن أبرزهم محمد صفوت باشا، وزير الزراعة، ووزير المعارف السابق محمد توفيق رفعت باشا، ومحافظ العاصمة محمود باشا صدقى، وفرانكلن جنتر الوزير المفوض لأمريكا فى مصر، وفكرى أباظة المحامى، وألمس مارتن، مديرة المدرسة، والدكتور آدم رئيس الحفلة «مقدمها».
وصف الحفلة عظيم ويشعرك كأنك تشاهد فيلمًا من أفلام تلك الحقبة التى شهدت بدايات السينما الروائية المصرية، فنرى «الآنسة ماتيلدا إسكندر الجرجاوى (وهى من رائدات العمل الاجتماعى فى مصر لاحقًا) وهى تلعب دورًا صعبًا على البيانو أثار إعجاب الحاضرين، وكانت الآنسات المتخرجات يسرن على نغماته قاصدات المسرح فى صفين مرتديات ملابس بيضاء ناصعة».
ويمضى وصف الحفلة ملائكيًا حتى يحل الدور على فكرى أباظة المحامى ليقول كلمته. وفكرى أباظة كان بجوار كونه محاميًا، عضوًا برلمانيًا وصحفيًا ساخرًا وأعزب عتيقًا، فقد كانت سنه حينها ٣٤ سنة ولم يتزوج.
ويبدأ «أباظة» كلمته بذكر أنه قد جاء فى مهمة دقيقة للغاية، لأنه «مكلف أن يخطب فى الأمهات والآباء وهو لم يكن يومًا لا أمًا ولا أبًا»، وأن هذا الوسط النبيل قد أثار فى نفسه تصميمًا لأن يكون رب أسرة، فإذا دعى للخطابة مرة أخرى كان أصيلًا لا دخيلًا.
ثم يذكر أمنيته لأن تكون له ابنة جميلة لا تشبهه، وعن مواصفاتها التى يتمناها فيها أن تكون «بنتًا دستورية حرة ذات سيادة مستقلة استقلالًا تامًا لا تخضع لديكتاتورية الأزياء».
وللحديث بقية.