حقيقة الصراع مع أغانى المهرجانات والراب
فى اجتماعه مع لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، طلب هانى شاكر، نقيب الموسيقيين، ضرورة التشريع بحق النقابة فى الضبطية القضائية ضد كل مطرب يعمل فى المهرجانات، وكأن هؤلاء الذين يمارسون الفن من المجرمين الذين تتعين ملاحقتهم قضائيًا، والأغرب من ذلك أن يطالب النقيب- الذى يُفترض أنه يحمى ظهر أهل الموسيقى والغناء ويقدم لهم كل سبل الرعاية الممكنة- بأن تكون النقابة بديلًا عن قسم الشرطة فى ملاحقة أشخاص كل جريمتهم أنهم يغنون، وترقص معهم الملايين من الناس فى كثير من الأفراح المصرية.
وهذا يستدعى الحديث عن جوهر الصراع القائم الآن مع أصحاب أغانى المهرجانات والراب، والذى لا يعكس صراعًا بين فن النخبة وفن الشعب، وإنما هو صراع مصالح ينطوى على مجموعة من الدلالات السبع التالية:
أولًا: هناك خلط شديد بين مفهوم المهنة ومفهوم الموهبة، ليس لدى نقابة المهن الموسيقية فقط وإنما أيضًا لدى جميع النقابات الفنية فى مصر، حيث تسعى تلك النقابات إلى العمل بمنطق النقابات المهنية المختصة بمهن كالطب والهندسة والمحاماة والتجارة وغيرها. هم يدعون بذلك أنهم يدافعون عن ممارسة الفن كمهنة وهذا يقيد الفن كموهبة وقدرات إبداعية عند حدود معينة ولا يسمح بأى تجديد، ويتغافلون عن كونهم يجب أن يعملوا لحماية مصالح جماعات تمارس الفن والإبداع، وتحتاج إلى الدعم والمساندة فى مواجهة قوى السوق الغاشمة، والضغوط السياسية الجامحة، والقوى الدينية المتشددة والتى تنشر التعصب والتكفير وتحرِّم الإبداع. صحيح أن التفوق فى أى مهنة تعبير عن موهبة كامنة، ولكن المهن الفنية بطبيعتها تستوعب موهوبين فى الموسيقى والسينما والمسرح والتمثيل والتصوير والإخراج السينمائى... إلخ، ووظيفتها فى كل دول العالم المتقدم أن توفر لكل هؤلاء الموهوبين والنابغين والمبدعين فى مجالات الفن كل سبل الدعم الفنى والاجتماعى والاقتصادى لتمكينهم من ممارسة فنهم بحرية، وهذا ما يسهم فى تعزيز قدرة مصر على بناء هذه الموارد البشرية النادرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل من يمارسون الفنون لديهم قدرات ومهارات إبداعية، بصورة أو بأخرى، تنمو بصورة مستمرة وتقتضى التجديد وحرية الإبداع والتجريب والتفاعل الخلاق مع التغيرات الاجتماعية والثقافية والفنية داخليًا وخارجيًا فى ظل الانفتاح على العالم، وهذا يؤدى إلى نمو أشكال جديدة من الفنون تواجه دائمًا تحديات كثيرة بمقتضى كونها تتجاوز الحدود والقوالب الفنية السائدة. وعلى النقابات الفنية أن تكون داعمة لهذه الطاقات الإبداعية على التجديد لا أن تكون حاشدة كل أدوات المقاومة ضدها.
ثانيًا: بطبيعة الحال خلف كل مقاومة لكل جديد هناك مصالح متضررة منه، ومن ثم تُبذل جهود كبيرة من جانب أصحاب المصالح للوقوف ضد كل محاولة جديدة فى الفن، خاصة إذا كانت تلك المحاولات الجديدة تتمتع بجماهيرية كبيرة، وهذا ينطبق على المهرجانات وأغانى الراب التى أصبحت تحظى بشهرة وانتشار واسعين وجنى أموال طائلة. ومن الطبيعى أن يثير التفوق الجماهيرى للمهرجانات والراب، حفيظة أهل الغناء التقليدى الذى اعتدنا عليه على مدى أربعة عقود مضت. وتستخدم النقابات الفنية لتلعب دورًا مؤثرًا فى هذا الصراع بموجب الاستخدام المتعسف للقانون لمنع أى تيارات فنية جديدة باسم الدفاع عما يسمى الأصالة الفنية والرقى الفنى فى كثير من الأحيان، وباسم الدفاع عن الأخلاق المجتمعية فى أحيان أخرى، خاصة حين تضعف حجج الدفاع عن القواعد الفنية الكلاسيكية. والأسوأ من ذلك أن تستدعى تلك النقابات عداء الدولة وذراعها القوية فى منع هذه الموجات الجديدة تحت مبرر أننا فى مؤامرة على الشعب المصرى وثقافته وهويته. هذا يلخص الحملة الشرسة التى تقودها نقابة المهن الموسيقية ضد أغانى المهرجانات وأغانى الراب وبعض الفرق الفنية الجديدة.
ثالثًا: هناك قيود شبيهة تفرضها نقابة المهن السينمائية فى منع المصورين والمُخرجين من العمل طالما هم ليسوا خريجى معهد السينما. وإذا صح هذا المبدأ فى نقابة الأطباء، فإنه لا يصح بأى حال فى نقابة مهمتها احترام وتقدير الإبداع وليس الشهادات أو القوالب النمطية فى ممارسة الفن، ومن الواضح أن قواعد النقابات الفنية لم تستوعب بعد إمكانية بروز الموهبة فى الموسيقى أو التصوير لدى طالب فى الطب أو الهندسة، ولا تستوعب النقابات الفنية الإمكانيات الهائلة الآن، والتى أتاحتها التكنولوجيا الحديثة والعولمة فى تنمية النبوغ فى الفنون خارج منظومة التعليم النظامى بالمعاهد الفنية الأكاديمية.
رابعًا: نحن الآن أمام ظاهرة جديدة تتمثل فى انتشار أغانى المهرجانات وأغانى الراب وبعض الفرق الموسيقية الجديدة المتأثرة بموسيقى الروك والبوب. هذه التطورات الجديدة مرتبطة بجيل جديد من الشباب يحاول أن يفرض ذوقه ولغته الفنية وهمومه، وقد ساعده على ذلك وجود مواقع التواصل الاجتماعى فى متناوله بلا حدود. غير أن هذا الجيل الجديد من الفنانين يواجه وضعًا مزدوجًا، اعترافًا مجتمعياً جماهيريًا كاسحًا من ناحية، مقابل انعدام كامل للشرعية المؤسسية من الإعلام الرسمى والقيود المهنية التى تفرضها النقابات المهنية بدعوى خرق القواعد واللوائح الفنية للمهنة من ناحية أخرى. وما يحدث الآن أن القيود المؤسسية تستنفد قوتها الواحدة تلو الأخرى بمقتضى المحاولات اليائسة لاستعداء المجتمع باسم الدفاع عن الأخلاق وتحريض الدولة باسم الدفاع عن الهوية، واستحداث تشريعات جديدة لتغليظ العقوبة على المخالفين والذهاب بالمقاومة إلى حد تحول النقابة إلى وظيفة الشرطى فى الضبطية القضائية. ويبدو أن الشرعية الجماهيرية لأغانى المهرجانات والراب باتت بين قوسين أو أدنى من الانتصار على القيود المؤسسية.
خامسًا: لسنا بصدد الدفاع عن أغانى وموسيقى المهرجانات فى ذاتها وإنما الدفاع عن حق ممارسة الفنون بصفة عامة وأى ألوان جديدة من الفنون بصفة خاصة مهما كانت التحفظات بشأنها. وبطبيعة الحال يمكن لهذه الألوان الجديدة أن تكون فاقدة بعض المقومات الفنية بفعل التأثير السلبى للجماهيرية الكبيرة فى الانتشار وإغراءات الشهرة والأموال، ولكن من يتأمل نصوص بعض الأغانى وبعض الأصوات والأساليب اللحنية سيكتشف أننا أمام ولادة جديدة لنوع موسيقى وغنائى جديد يتسم بالجرأة إلى حد البذاءة أحيانًا، والخطاب المتمرد أحيانًا، بما يعبر عن تجاوز لما تفرضه السلطة الأخلاقية فى المجتمع فى أحيان أخرى، ورغم كل ذلك ثمة مؤشرات على وجود تيار فنى جديد يبحث عن موطئ قدم بين الفنون المختلفة، وقد يتعثر نموه الفنى بفعل إغراءات المكاسب الهائلة، وبفعل عدم التجاوب الفنى والنقدى والعلمى والثقافى والمهنى معه. وربما يستطيع بعض أصحاب المواهب فى هذه الأنواع الجديدة من الموسيقى القفز على الأشواك وعبور المستحيل نحو تأسيس حركة فنية جديدة تكتسب شرعية فنية وأكاديمية واجتماعية أيضًا.
سادسًا: كل جديد مُعرّض لموجات من الانتقاد عاصفة، وهذا ما يحدث دائمًا عند بروز جماعة فنية جديدة على مدى تاريخ الفن فى مجتمعنا وفى مجتمعات أخرى كثيرة، وأبسط دليل على ذلك ما حدث من هجوم عنيف ضد سيد درويش حين كان يغنى فى الأفراح ويجدد الموسيقى العربية وسط الناس من خارج دوائر النخبة، ويذكر التاريخ الأدبى الهجوم الضارى على شعر العامية حين ظهرت بوادره الأولى مع بيرم التونسى وفؤاد حداد والأبنودى وصلاح جاهين، كانت النظرة السائدة إلى شعر العامية أنه اعتداء صارخ على اللغة العربية الفصحى واعتداء على الهوية العربية، وهذا يشبه أيضًا ما حدث من هجوم على الأدب الشعبى ضد دارسيه وضد الممارسين للغناء الشعبى باعتباره يتضمن نصوصًا بالعامية لا ترقى إلى مستوى الأدب العربى أو الغناء العربى الرصين، ولا ينسى جيل السبعينيات الهجوم الذى حدث على المطرب أحمد عدوية حين ظهر لأول مرة فى أواخر عصر أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ مع انتشار تكنولوجيا شرائط الكاسيت التى أطاحت بهيمنة الإذاعة والتليفزيون على الجمهور.
ولعلنا نلاحظ أن كل من كانوا يتعرضون للاستبعاد ويوصفون بالتدنى، أصبحوا عمالقة مجددين للفنون والآداب رغم أنف كل من حاول أن يقلل من شأنهم. فقد أصبح سيد درويش رمزًا للتجديد فى الموسيقى العربية وأصبح بيرم التونسى وفؤاد حداد وعبدالرحمن الأبنودى وصلاح جاهين عمالقة فى الانتصار لجماليات شعر العامية المصرية، وأصبح الأدب الشعبى وفنونه يلقى احترامًا لكل من يمارسه، ولم يعد أحد يتشكك فى جمال صوت وموسيقى أحمد عدوية، خاصة بعد أن أثبت الموسيقار العظيم هانى مهنى جمال هذا الصوت مع تلحين أغنية «زحمة يا دنيا زحمة» التى كتب كلماتها الشاعر حسن أبوعتمان.
سابعًا: هذا يعنى ببساطة أن هؤلاء الذين ينصبون من أنفسهم حماة للفن والأخلاق والهوية، قد يلحقون الضرر الشديد بالإبداع وبقدرة مصر الحقيقية على بناء قواها الناعمة بموجب كونهم يسهمون فى تشكيل بيئة معادية للتجديد والتجريب فى الفن وممارسته، ويضعون أنفسهم كحراس للبوابة «gate keepers» التى تمنع بقدر ما تمنح وفقًا لاعتبارات تمليها المصالح الضيقة، بما يحول دون تطور الفنون واكتشاف المواهب الجديدة، وإتاحة فرص التجريب فى الفنون وفقًا لقاعدة البقاء للأصلح، إضافة إلى أن التعنت الشديد فى المنع ينطوى على قدر كبير من الوصاية الفنية التى تصل إلى حد التطرف وضيق الأفق وعدم الوعى بالتأثيرات الاجتماعية والثقافية للفنون فى مجتمع يعانى من التطرف. هؤلاء ليس لديهم إدراك لأهمية التداول الشعبى للفنون الجماهيرية فى تذويب نيران التعصب والتطرف، خاصة الموسيقى المصاحبة للبهجة والحماس كأغانى المهرجانات والراب حين تكون ذات قبول شعبى واسع النطاق بين الشباب. وأتصور أن هذه الطاقة الفنية المتدفقة يصعب منعها ولن تفلح محاولات تفكيكها وإعادة تغليفها على طريقة الممثل محمد رمضان، وإذا ظلت محاولات المنع قائمة دون منافذ آمنة، سوف يستمر هذا اللون من الموسيقى والغناء ويصبح متنفسًا فنيًا للغضب والتمرد بدلًا من السعادة والبهجة.
أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة