بيوت السويس
هذه أيام السويس.. ذكرى المقاومة والبطولة، فى ٢٤ و٢٥ و٢٨ اندلعت معارك السويس، من بين كل المعارك يبقى لمعركة السويس طعم خاص، هى معركة الفدائيين، أهل المدينة الذين وقفوا بأجساد عارية أمام الدبابات الإسرائيلية وانتصروا عليها، كانت الفكرة أن إسرائيل تريد دخول المدينة خلال الساعات القليلة التى تسبق قرار وقف إطلاق النار.. يُروى أن القائد المكلف بالاقتحام سأل قائده الأعلى هل يدخل المدينة أم لا؟ أجابه قائلًا.. إذا كانت «بير سبع» فالإجابة نعم، وإذا كانت «ستالينجراد» فالإجابة لا.. كانت بير سبع للأسف قد سقطت بسهولة بالغة فى حرب ٤٨، أما ستالينجراد فهى المدينة التى أدت بسالة أهلها لخسارة ألمانيا الحرب العالمية الثانية، ظن القائد الإسرائيلى أن السويس ستكون «بير سبع» لكن أهلها قرروا أن تكون «ستالينجراد».. وإذا شئنا الدقة، فقد اختاروا أن يقاتلوا بروح ستالينجراد، وليس بكثافة نيرانها.. كان معظم سكان السويس قد تم تهجيرهم، وهى تقريبًا خالية إلا ممن قرروا أن يعيشوا ويموتوا فيها، ومن رجال منظمة سيناء العربية.. الفدائيين، أو الفداوية كما ينطقها أهل القنال.. المنظمة كانت جزءًا من القوات المسلحة المصرية، لكن مقاتليها مدنيون، اختاروا أن يقاتلوا، سعوا بأنفسهم للفداء، كان العدد قليلًا، والسلاح أيضًا، الجيش الثالث محاصر فى الثغرة، وفى المدينة أعضاء وحدات الإمداد والتموين والمهام الإدارية فقط، والعميد يوسف عفيفى قائد الفرقة ١٩ ينقل للمدينة كل ما يمكن نقله من الصواريخ المضادة للدبابات، دخل الإسرائيليون المدينة بسهولة، فى وسط البلد كان الكمين، عدد قليل من المقاتلين أمام قسم الأربعين وسينما رويال على أكتافهم الآر بى جى، استهدفوا طابور الدبابات، أصابوا أول دبابة فتعطلت الحركة، أطلقوا نيرانهم على بقية الدبابات، نزل الجنود الإسرائيليون من الدبابات، فتعامل معهم الفدائيون، حاولوا احتلال قسم السويس، الإسرائيليون ليسوا عدوًا سهلًا، وهنا تكمن عظمة المقاتل المصرى، التفاصيل كثيرة، احتل اليهود القسم بالفعل وتعامل معهم الفدائيون داخله، بعد الكمين أمام السينما، كانت المصيدة داخل القسم.. أعظم ما حدث فى أكتوبر أن المصريين أتيحت لهم الفرصة للقتال، الفرصة التى حرموا منها فى يونيو ٦٧، السويس كانت التجسيد الحى للقتال حتى آخر نفس، القتال باللحم الحى، الموظفون والصنايعية الذين يدافعون عن مدينتهم، ربات البيوت اللاتى يلقين الزيت المغلى على الإسرائيليين من البلكونات، إحساس الجميع أن هذه الأرض لهم.. عندما بحثت عن أسماء شهداء السويس من المدنيين وجدت أسماء مثل اسمى واسمك «إبراهيم سليمان، أحمد أبوهاشم، فايز حافظ، أشرف عبدالدايم، إبراهيم يوسف».. مات هؤلاء دفاعًا عن الأرض، فلماذا لا نعرفهم؟ لماذا لا نقرأ عنهم كما نقرأ عن الأسطورة، والفنانة العارية، والداعية المتنطع، لماذا يغيب عنا المعنى الذى يمثله هؤلاء ويحاصرنا اللا معنى واللا قيمة واللا قضية؟.. نجح رجال السويس فى صد الاحتلال الإسرائيلى للمدينة، وقرر الإسرائيليون حصار المدينة من الخارج، بدأت ملحمة أخرى، سقط مدير مستشفى السويس شهيدًا نتيجة عمل متواصل لعلاج الجرحى والمصابين، تقاسم الأهالى رغيف الخبز، ضربوا ملحمة فى الصمود من أجل الحفاظ على المعنى، قال الرئيس السادات إن أهل السويس لم يكونوا يدافعون عن مدينتهم، ولكن كانوا يدافعون عن مصر كلها فى ٢٤ أكتوبر.. غنى الكابتن غزالى مع ولاد الأرض «عضم ولادنا نسنه نسنه ونعمل منه مدافع.. وندافع».. كان هذا واقع الحال تمامًا، رغم قسوة التشبيه، كانت البطولة للإنسان لا للسلاح.. غنى محمد حمام «يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى.. استشهد تحتك وتعيشى انتى»، وكانت عبقرية الجملة البسيطة أنها تسجل ما حدث بالفعل.. تروى قصة من عبر عن حبه لبلاده بالفعل لا بالكلام.. لسبب ما لم تنل السويس ما تستحق، لم تتحول لمدينة حرة مثلًا.. أحد الأهالى قال للمصرى اليوم إن الرئيس السيسى هو الرئيس الوحيد الذى كرم أمًا «سويسية» فقدت اثنين من أبنائها فى المعركة، وإن المدينة شهدت مؤخرًا حركة تصنيع فى مجال الغاز ومجالات أخرى.. ما جرى على أهل السويس هو ما جرى على كل الذين «عبروا» والذين تمت سرقة جهدهم لحساب الذين «هبروا» كما كان يقول الكاتب الراحل محمود السعدنى.. رحمة الله عليه وعلى شهدائنا الأبرار أمس واليوم وغدًا.