أحوال التعليم التى فاجأتنا
أنا من المؤمنين بأهمية التعليم فى مصر، وعقيدتى فيه هى نفس عقيدة عميد الأدب العربى، الذى قال إن التعليم حق كالماء والهواء، وسعى لتطبيق ذلك حين صار وزيرًا للمعارف قبل ثورة يوليو بقليل، التعليم والصحة أيضًا هما أهم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التى تسعى الدولة المصرية لإقرارها، والتوسع فيها، دستوريًا ينص الدستور على تخصيص ٤٪ من الموازنة العامة للتعليم، من الناحية العملية دخلت الدولة فى عملية تطوير كبيرة للتعليم من حيث المناهج، وطرق التلقى، والدخول بالتلاميذ للعصر الإلكترونى الذى لا تعرف الأجيال الجديدة غيره من الأساس، مسائل التعليم تحتل مساحة كبيرة من النقاش العام لاعتبارات متعددة، منها أنها تمس كل أسرة لديها طالب فى مدرسة، ومنها أن الناس تألف القديم وتقاوم الجديد، ومنها أن كثيرًا من الإعلاميين يجدون انتقاد التعليم مساحة مأمونة وآمنة، يمارسون فيها حق النقد وينالون اهتمام المشاهد فى نفس الوقت.. ما دعانى للكتابة هو مجموعة صور فوتوغرافية انتشرت على فيسبوك، تصور الحال فى بعض المدارس فى أول أيام الدراسة، ما أقوله إن الصور صادقة، ولكنها تصور واقعًا قديمًا جدًا عمره أكثر من ثلاثين عامًا، إن «اللقطة» بطبيعتها لا تصور جهود الإصلاح، ولكنها تبحث عن الغريب، والصادم، لقد بدا لى من تعليقات البعض وكأن هذا أول يوم للتعليم فى مصر على مر تاريخها، مع أن المشكلات موجودة وتتراكم منذ عقود، لكن الكاميرا لم تكن متاحة كما هى الآن، ولا وسائل التواصل متاحة كما هى الآن، ولا الرغبة فى الكيد السياسى موجودة كما هى الآن.. إننى أذكر أننى عدت مع أسرتى من الخليج فى منتصف الثمانينيات لألتحق بمدرسة مجاورة للبيت فى حى شبرا، وكان أول ما قاله لنا مدرس اللغة العربية إن الطالب الذى لن يحصل على درس خصوصى سيرسب فى أعمال السنة، وكان ذلك شأن مدرس اللغة الإنجليزية أيضًا، وأذكر جيدًا أن والدى الذى تعلم فى الأربعينيات لم يصدق أن هذا أصبح حال التعليم فى مصر، وأذكر جيدًا أن النوافذ كانت دون زجاج، وأننا لم نعرف الوجبة المدرسية، وقد سعت أسرتى بعد ذلك لإلحاقى بالمدرسة التوفيقية، وكان الحال فيها مختلفًا تمامًا، ولم تكن يد الإهمال والفساد قد طالتها كما طالت غيرها من المدارس.. ما أريد أن أقوله إن العطب قديم، وإن المشكلة متراكمة، ويزيد منها أننا نزيد ٢ مليون نفس كل عام، منهم ٨٠٠ ألف يحتاجون لمقاعد جديدة فى المدارس.. ولا يجب أن نترك كل جهود الإصلاح لنتوقف عند لقطة تسبب فيها تخاذل مدير مدرسة، أو تقصير وكيل وزارة.. من ناحية أخرى فإن أكثر المنشورات الغاضبة تدين ما يعتبره أصحابها خللًا فى توزيع الأولويات.. فيقول بعضهم كيف نشق الطرق الواسعة ونهمل التعليم؟ أو كيف نبنى القطار السريع ونهمل التعليم؟ وهكذا.. والحقيقة أن هذا ربما يعكس رغبة مشروعة من صاحب المنشور فى الاشتراك فى النقاش العام.. لكنه ربما يعكس أيضًا نوعًا من العجز عن الرؤية الكلية، أو تقصيرًا فى الشرح من الإعلام أو من المسئولين أنفسهم.. والفكرة أن عملية التنمية لابد أن تكون شاملة، صاحب القرار يضع خطة اسمها مصر ٢٠٣٠ مثلًا، هذه الخطة تقول إنه بعد ١٢ عامًا سيكون لدينا خريجون متميزون من المدارس والجامعات، ولكن أين سيعملون بشهاداتهم المميزة؟ هنا يأتى دور التنمية الشاملة، لكى يعمل هؤلاء الخريجون لابد من وجود مشاريع ومصانع وشركات تستوعبهم، هذه المشاريع تأتى من رأس المال العالمى، هذا الاستثمار العالمى لكى يأتى يجب أن يجد بنية تحتية قوية، كهرباء، وطاقة، وطرق، وموانئ، هذه البنية التحتية هى ما تنفق فيها الدولة إلى جانب التعليم، والصحة.. لا يمكن أن نتوقف عن الاستثمار فى كل شىء عدا التعليم، لأنه فى هذه الحالة سيكون لدينا خريجون متميزون جدًا، لكنهم سيتخرجون ليجدوا البلد وقد تحول إلى «خرابة» لا قدر الله، وسيفكرون فى الهجرة بتعليمهم المتميز للخارج، وفى هذه الحالة- لا غيرها- نكون قد أهدرنا مليارات الدولارات على تعليم لم ينفع البلد فى شىء.. أما ازدواجية التعليم ما بين عام وخاص ودولى وأزهرى فهذا موضوع آخر نتحدث فيه غدًا بإذن الله.