الشعرة الضائعة بين «الكلام» و«الحوار»
منذ عدة أيام كنت بصحبة عدد من الأصدقاء الكتّاب والمثقفين، وكان الكلام لا يتوقف طوال ساعات، فيما يبدو أنها مناقشة حامية وجادة جدًا، لكننى للحقيقة التزمت الصمت فى معظم الجلسة، إذ لم تمض دقائق حتى اكتشفت أنها مجرد جلسة كلام «مكلمة يعنى»، يرمى خلالها كل طرف ما لديه من أقوال دون استماع لبقية المتحدثين معه على ذات المائدة.
لم يكن هناك حوار بالمعنى الذى أفهمه، فكرة ترد عليها فكرة، أو تدعمها، أو تدور حولها وتفند مفرداتها، أو ما شابه من عناصر الحوار.
لم يكن هناك سوى مجموعة أشخاص يتكلمون ويستعرضون معلوماتهم حول ذات النقطة، ودون أن يستمع أحدهم لما يقوله الآخرون، فقررت اختيار مقعد المُشاهد، أو المستمع الوحيد، لكننى أيضًا لم أستطع الاستمرار فى الاستماع لتلك «المكلمة»، وكان لى أن أسرح عنهم فيما لدىّ من أفكار وتصورات، فوجدتنى مشغولًا منذ فترة ليست بالقصيرة بالمثل الشعبى «كذب مساوى ولا صدق ملعبك»، ومدى صحة انتسابه إلى أمثالنا كمصريين، والحقيقة أننى ما زلت لا أفهم فكرة الترويج للكذب، أيًا كان نوعه، أو شكله، أو سياقه، ملعبك أو ملخبط أو مبعكك، أبيض أو رمادى أو غيرهما من الألوان.
والمعروف أن هناك روايات تستبدل كلمة «ملعبك» بكلمات أخرى تحمل نفس الدلالة، مثل «ملخبط»، أو «مبعكك»، والملفت أنها كلها مستمدة من فنون الطبيخ، أو «العجن» على وجه التحديد، وأغلب الظن أننا جميعًا نعرف ما «لخبطة العجين ولعبكته»، فإذا كان المصريون أفضل شعوب العالم فى فنون «الرغى»، أو «الهبد» بالمصطلح الجديد والمستمد من وسائل التواصل الاجتماعى، فإن فطنة المصرى القديم هى ما جعلته على الأغلب يختار المثل من «العجن»، وليس من أى صنعة أو فنون أخرى، فنحن نستخدم الكلام لمجرد الكلام، والرغى، أو «اللت والعجن»، فهو «كلام ابن عم حديت» كما يقولون، لا حوار بيننا، ولا مناقشة، لا نعرف فنون الكلام كوسيلة للتواصل، أو للحوار، والإقناع والاقتناع، الكلام عندنا مجرد وسيلة نفرغ بها ما يمر على رءوسنا، من تصورات وأفكار، وحكايات، دون استماع للطرف الآخر، الذى لا يهمنا ما يظن، أو ما يدور بذهنه، أو ما يرى، لا نريد إقناعه، ولا مناقشته، ولا يعنينا بأى حال من الأحوال.
وإذا كانت مقولة «الصدق منجاة» حاضرة فى الذاكرة العربية، فإن حضورها لا يعادل هذا المثل الذى يحتل مرتبة متقدمة فى ثقافتنا، لذا برعنا فى «تسوية الأكاذيب»، وتسبيكها، وترويجها أيضًا، بل والتهوين من خطرها، أو أثرها، فأصبحت لدينا «الكذبة البيضاء»، والرمادية، وغيرهما من الألوان، وهى أنواع من الأكاذيب التى برعنا فى الترويج لها باعتبارها لا تؤذى أحدًا، ولا خطورة منها، وربما كانت محببة لدى البعض.
والحقيقة أنه لم ينافسنا، أو يتفوق علينا فى هذه العملية «تسوية الأكاذيب وتسبيكها»، إلا «الخواجة» الذى تحول عندنا إلى «عقدة»، نرد بها على من ينجح فى تحويل دفة الكلام لصالح ما يروى من أخبار وحكايات، حتى أصبح ما يقوله «الخواجة» عنّا أكثر حضورًا مما نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا، ونردده فى جلساتنا، وبيوتنا، فإذا ما قال «الخواجة» نقيضه، أو عكسه تمامًا، صدقناه هو، وتحولت حكايتنا، وحواراتنا، إلى تبنى ما يردده هو عنّا، وهو ما أصبح أشبه بكارثة نعانى منها، خصوصًا فى السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ منتصف القرن العشرين، مع انتشار الصحف الدولية، ووكالات الأنباء العالمية، والتى تدعى، جميعها، المصداقية، والموضوعية، والحياد، رغم معرفتنا جميعًا بما تقوم به من أدوار، سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وبأنها صنيعة النظم، ووكالات الاستخبارات الغربية، ورغم ما تم الكشف عنه من أنها جزء شديد الأهمية فى «الحرب الباردة الثقافية»، المصطلح الذى سكته الباحثة البريطانية فرانسيس ستونور سونديرز، فى كتابها المهم الذى يحمل نفس العنوان، والذى صدر بالعربية بترجمة طلعت الشايب، وتقديم الدكتور عاصم الدسوقى، منذ ما يقرب من العشرين عامًا، أو أقل بقليل، وهو الكتاب الذى «يتحدث عن ذراع التجسس السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية، والتى تمثلت فى منظمة الحرية الثقافية، ومكاتبها المنتشرة فى ٣٥ دولة، وتصدر أكثر من ٢٠ مجلة ذات نفوذ، وتنظم المعارض الفنية، وتمتلك مؤسسات إعلامية، وتعقد مؤتمرات دولية، تحضرها شخصيات بارزة، وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز»، لنشر معلومات، وأخبار، وأفكار، وطرح قضايا بعينها، والتخطيط للتأثير على الأفكار، والسلوك، وتجنيد أعداد من الأكاديميين ومراكز البحوث، فيما يمكن أن نطلق عليه «شبكة الدعارة المعلوماتية الدولية»، والتى لا تتورع عن استخدام الدين كسلاح فى هذه الحرب الثقافية الشاملة.
كل هذا وغيره سبق الكشف عنه، بالوثائق، والأدلة، ونشره فى كتب، ومقالات، ودراسات، لكن ما يقلق حقًا أنه فيما يبدو أن العرب بالفعل «لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون»، وإلا فماذا يجعلنا لا نستطيع أن نقيم حوارًا حقيقيًا فيما بيننا، تكون أفكارنا وتصوراتنا وتعاليمنا ومبادئنا وليدة مجتمعاتنا هى المحور، والمحرك لما نتكلم به، ونتحدث عنه، ونتحاور فيه؟ بدلًا من أن تتحول جلساتنا وندواتنا إلى مجرد «مكلمة» يلقى فيها كلٌ منا ما لديه دون استماع لأى طرف آخر، ودون حوار يمكن البناء عليه؟
متى يدرك مثقفونا أن «الحوار حاجة والكلام حاجة تانية خالص»؟.