أسرار من أرشيف «الأغنية الوطنية».. أم كلثوم دمرت 15 عملًا غنتها للملك فاروق
تميزت مصر على مدار تاريخها الفنى بالريادة فى مجال الأغنية الوطنية، تأليفًا وتلحينًا وغناءً، وقدم أبرز مطربيها أروع الأغانى التى أحبها المصريون وتعلقوا بها.
وبدأ إنتاج الأغنية الوطنية فى مصر مع بداية طرح مفهوم الهوية المصرية، أى بعد قيام ثورة ١٩١٩ ضد الاحتلال الإنجليزى، فى ظل المعاناة التى واجهها المصريون من الحكم البريطانى والأحكام العرفية التى صدرت بحق المصريين، مع رغبتهم فى الحصول على الاستقلال.
سيد درويش.. باعث النهضة الموسيقية
ارتبطت الأغنية الوطنية بظهور مفهوم الوطن والقومية، وتطورت من خلال تقديم أفكار جديدة وتسليط الضوء على أهداف التعليم والأدب والنهضة خلال كلماتها، لترسيخها فى الوجدان الشعبى.
ومع قيام ثورة ١٩١٩ أصبح سيد درويش زعيم الأغنية الوطنية المصرية بامتياز، وباعث النهضة الموسيقية فى مصر والوطن العربى، من أول نشيده الشهير «بلادى بلادى.. لك حبى وفؤادى»، من تأليف الشيخ يونس القاضى، إضافة إلى أغنيته: «قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك.. خد بنصرى نصرى دين واجب عليك»، و«أنا المصرى كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الأهرامين».
وشهدت الأغنيات الوطنية الكثير من التطوير بعد ثورة ٥٢ يوليو، حيث انطلق الشعراء والملحنون والمطربون فى ماراثون تقديم أعمال وطنية تشجع الجماهير على مقاومة الاستعمار والحصول على الاستقلال وغيرها.
من بين تلك الأغانى، واحدة مُنعت كلماتها من التسجيل فى عهد الملكية، وتحمل اسم «نشيد الحرية» من أشعار كامل الشناوى، وبعد ثورة ٥٢ يوليو قرر مجلس قيادة الثورة تقديمها للجمهور بصوت موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وكان لاكتشافها وإعدادها وتقديمها كواليس وأسرار عديدة.
بعد ثورة ٥٢ يوليو ذهب محمد أنور السادات، عضو مجلس قيادة الثورة آنذاك، إلى الإذاعة للبحث فى ملفاتها عن أغنية تصلح لتلهب حماس الشعب، وفى أثناء البحث عثر على ملف أغنية «نشيد الحرية» وكان يضم كلماتها، وعلى غلافه الخارجى وجد عبارة «مُنعت من التسجيل».
واستدعى محمد أنور السادات «عبدالوهاب»، وأبدى رغبته فى تسجيل الأغنية الممنوعة، لكنه اشترط فقط تبديل كلمة واحدة فيها؛ حيث نصت النسخة الأولى من النشيد «أنت فى صمتك مرغم، أنت فى صبرك مكره»، لتعدل إلى «كنت فى صمتك مرغم، كنت فى صبرك مكره».
ويظل أبرز من قدم الأغنية الوطنية هو محمد عبدالوهاب، حيث يمتد تراثه من الأغنيات الوطنية إلى ٦ عقود ابتداءً من ١٩٣٣ حتى الثمانينيات، أى قرابة ٦٠ سنة متواصلة، منها ٤٩ أغنية غنّاها بصوته، إلى جانب ٧ أغنيات غنّاها لدول عربية، كما لحّن قرابة ٢٠ أغنية لغيره من المطربين، ويكون مجموع ما لحن قرابة ١٦٧ عملًا، وهو عدد لم يقترب منه أى ملحن آخر فى هذا المجال.
ومن أشهر تلك الأغنيات التى قدّمها عبدالوهاب عام ١٩٣٦ «حب الوطن فرض عليّا... أفديه بروحى وعينيّا» اعتزازًا بانتفاضة الطلبة فى ذلك الوقت من ناحية، واحتفالًا بمعاهدة ١٩٣٦ التى أبرمها مصطفى النحاس، زعيم حزب الوفد، مع الإنجليز من ناحية أخرى، تلك المعاهدة التى اعتبرها المصريون آنذاك انتصارًا كبيرًا فى رحلة كفاحهم ضد الاستعمار.
وبطبيعة الحال، قدّم عبدالوهاب أغنيات وطنية عاصرت العديد من الحقب السياسية فى مصر، بداية من فترة الملكية، مرورًا بفترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وصولًا إلى فترة الرئيس الراحل محمد أنور السادات. كما قدّم محمد قنديل إسهامات بارزة فى مجال الأغنية الوطنية، ومن أبرز أعماله «ع الدوار.. ع الدوار.. راديو بلدنا فيه أخبار» التى طرحها بعد ثورة يوليو، وكذلك أم كلثوم التى أهدت مستمعيها أغنيتها الخالدة «مصر التى فى خاطرى وفى فمى أحبها من كل روحى ودمى» بعد أسابيع قليلة فقط من قيام الثورة. وروى الكاتب الصحفى محمد دياب، فى لقاء إذاعى، واقعة موثقة حدثت بعد ثورة ٢٣ يوليو مع كوكب الشرق أم كلثوم، قائلًا: «بعد قيام الثورة بأيام توجه الرئيس محمد نجيب للإذاعة، وناشد المؤسسات تطهيرها من أعوان الملكية والفساد والاستعمار، وكان آنذاك قائدًا للثورة ولم يكن رئيسًا للجمهورية بعد».
وتابع: «توجهت أم كلثوم فورًا للإذاعة وأشرفت بنفسها على مسح أغانٍ قدمتها للملك فاروق، ونشرت الصورة فى مجلة (الكواكب)، وتحتها عنوان شارح يقول إن أم كلثوم تقوم بكذا وكذا، ولها حوالى ١٩ أغنية عن الملك فاروق ومسحت منها حوالى ١٥ أغنية».
عبدالحليم حافظ.. صوت الثورة ومداوى جراحها
برز اسم عبدالحليم حافظ فى فترة ما بعد ٥٢ يوليو باعتباره صوت الثورة كما لقّبه البعض، وبدأ مشوار غنائه لها بأغنية «العهد الجديد» عام ١٩٥٢، ويعتبر أول نشيد وطنى من ألحان عبدالحميد توفيق زكى، وكلمات محمود عبدالحى.
وأول أغنية يغنيها عبدالحليم حافظ للرئيس «عبدالناصر» بعد توليه رئاسة الجمهورية هى «إحنا الشعب»، كلمات صلاح جاهين، وألحان كمال الطويل، وكانت الأغنية بداية سلسلة من الأغانى التى كان يهديها «حليم» لـ«ناصر» فى كل عيد للثورة.
ومع نكسة يونيو ١٩٦٧ تبارت الأغنيات الوطنية فى تضميد جراح الشعب، ومن أبرز ما قدمه «حليم» فى تلك الفترة أغنية «عدّى النهار، وناصر يا حرية، وسكت الكلام والبندقية اتكلمت، وأحلف بسماها وبترابها».
وفى تلك الفترة أبدع الموسيقى على إسماعيل أنشودة مطلعها «رايحين رايحين شايلين فى إيدنا سلاح»، أما عبدالوهاب فقدم أغنيات «طول ما أملى معايا معايا وفى إيديا سلاح، سواعد من بلادى، كل أخ عربى أخى، حرية أراضينا فوق كل الحريات».
وتوقفت الأغانى الوطنية حزنًا على رحيل الرئيس عبدالناصر، ثم عادت للانطلاق بقوة مرة أخرى بعد نصر أكتوبر فى عهد الرئيس السادات، الذى غنى له عبدالحليم حافظ، للمرة الأولى، بعد النصر، أغنية «عاش اللى قال» من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدى.
أغانى النصر.. «عبرنا الهزيمة»
تبقى أغانى أكتوبر ١٩٧٣ حالة صدق فريدة فى تاريخ الأغانى الوطنية، عبّرت بالفعل عن الحدث العظيم إلى حد بعيد، ومن أهم الأعمال عن نصر أكتوبر ١٩٧٣ «بسم الله.. الله أكبر.. بسم الله.. بسم الله» للمجموعة، و«أنا على الربابة باغنى»، لوردة، وكتبها عبدالرحيم منصور، ولحنها بليغ حمدى. من تلك الأغنيات أيضًا «ويا أول خطوة فوق أرضك يا سينا» لمحمد رشدى، و«الباقى هو الشعب» لعفاف راضى، و«لفى البلاد يا صبية»، و«قومى إليك السلام يا أرض أجدادى»، و«صباح الخير يا سينا» لعبدالحليم حافظ، كما غنت سعاد حسنى «دولا مين.. ودولا مين»، «وشدى حيلك يا بلد» لمحمد نوح، و«أم البطل» لشريفة فاضل من تأليف الشاعرة الراحلة نبيلة قنديل وألحان الموسيقار الراحل على إسماعيل. أيضًا «رايات النصر» للمجموعة، و«مصر يا غالية» لنجاح سلام، وغنت نجاة «ع البر التانى» و«من باب الفتوح»، وغنت فايزة أحمد «يا صباح النصر يا مصريين»، وغنت شهرزاد «سمينا وعدينا»، وغنت شادية «رايحة فين يا عروسة». وفى عام ١٩٧٣ غنت الفنانة شادية أغنية «عبرنا الهزيمة»، من تأليف الشاعر عبدالرحيم منصور، واستوحى كلماتها من مقالة بـ«الأهرام» لتوفيق الحكيم بالاسم نفسه، ولحنها بليغ حمدى.
«أمير الأنبياء» تثير غضب عبدالناصر من الرقيب
الأغنيات الوطنية التى قدّمها فنانون فى العصر الملكى أسهمت فى انتشار شائعة عن منع إذاعة أغانى أم كلثوم فى الإذاعة المصرية، عقب قيام ثورة يوليو، نتيجة الأغنيات الوطنية العديدة التى غنتها للملك فؤاد ثم نجله الملك فاروق لاحقًا، لكن حوارًا نُشر فى «الأهرام» مع مؤسس إذاعة العرب، الإعلامى أحمد سعيد، أجراه أحمد السماحى، أكد أن المسألة لم تكن منعًا تامًا، إنما مُنعت أغنية واحدة وأعادها عبدالناصر مرة أخرى عندما عرف بالقصة. والحكاية، كما رواها الإذاعى الكبير، أن الثورة بعد فترة قليلة من قيامها عيّنت «رقيبًا» مهمته مراقبة الأغنيات والبرامج والحوارات التى تُذاع طوال اليوم، وأن يكتب تقريرًا عما سمعه أو تم بثه عبر الإذاعة لمجلس قيادة الثورة، وفى تلك الفترة منع الرقيب إذاعة قصيدة «نهج البردة» من كلمات أحمد شوقى، وألحان رياض السنباطى، وغناء أم كلثوم؛ لأن فى أحد أبياتها تقول: «لَزِمتُ بابَ أَميرِ الأَنبِياءِ وَمَن يُمسِك بِمِفتاحِ بابِ اللَهِ يَغتَنِمِ.. مُحَمَّدٌ صَفوَةُ البارى وَرَحمَتُهُ وَبُغيَةُ اللَهِ مِن خَلقٍ وَمِن نَسَمِ.. نودِىَ اِقرَأ تَعالى اللَهُ قائِلُها لَم تَتَّصِل قَبلَ مَن قيلَت لَهُ بِفَمِ.. هُناكَ أَذَّنَ لِلرَحَمَنِ فَاِمتَلَأَت أَسماعُ مَكَّةَ مِن قدسيّة النَغَمِ». وعنّف الرقيب يومها المذيع الشاعر «أحمد خميس»، المسئول عن إذاعة القصيدة، لأنه لم يعرض كلماتها عليه لأخذ رأيه فى كلماتها، فقال له المذيع الشاب: هذه قصيدة معروفة ومشهورة فى مدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، وتُذاع من سنين طويلة باستمرار، فطلب منه الرقيب إحضار كلمات القصيدة، وبالفعل أحضر خميس كلماتها وعندما قرأها علّم بقلم فى يده بدائرة حمراء على كلمة «أمير الأنبياء»، وقال له: ألم تعلم يا أفندى أن الثورة ألغت الملكية وألقاب الأمراء! فكيف نذيع نحن أغنية تقول «أمير» ومعرفش إيه؟!! هذه الأغنية يجب عدم إذاعتها مرة ثانية. وعندما وصلت القصة إلى عبدالناصر أمر برفت هذا الرقيب، وتعيين زميله البكباشى «عبدالمعنم السباعى» لأنه يكتب الشعر والأغانى، وسيكون على دراية وفهم لما يجب أن يذاع، أو لا يذاع.