قلعة الشيخ كريمة وبحر الزمالك
يقول المثل العربى إن لكل مقام مقالًا، ويتساءل الممثل الكوميدى محمد سعد: «ما الذى أتى بالقلعة بجانب البحر»؟، وهو تساؤل صار يُقال تعبيرًا عن اختلاط الملفات، وتداخل الأوراق، وغياب المنطق.. وقد وجدتنى أستدعى تساؤل الكوميدى الشهير وأنا أقرأ فتوى للدكتور محمود كريمة حول عدم جواز التبرع لنادى الزمالك، والدكتور كريمة فيما أعلم عالم دين، والزمالك نادٍ رياضى.. ولم أفهم ما الداعى لسؤال عالم دين عن نادٍ رياضى؟.. وأنا لا أعترض على مضمون الفتوى، ولكنى أعترض على الفكرة نفسها، فالزمالك نادٍ رياضى يشجعه المسلم والمسيحى، المتدين، وغير المتدين، الغنى والفقير، والتبرع له أو عدم التبرع له لا يدخل أساسًا فى باب الحلال والحرام.. والذين سيتبرعون سيتبرعون استجابة لمشاعر شخصية لا يعرف عنها الشيخ كريمة شيئًا، إذا لم يكن مشجعًا كرويًا.. وما علمته أن رئيس الزمالك دعا المشجعين للتبرع، ولم يقل لهم أن يتبرعوا من أموال الزكاة، ولم يقل لهم إن التبرع للزمالك من مصارف الزكاة الشرعية، حتى يتطوع الشيخ كريمة بالفتوى فى الموضوع.. إننى لا ألوم الشيخ كريمة، فما قاله، وسؤاله عن أمر من أمور الدنيا، هو جزء من ظاهرة عامة، أخذت تتصاعد مع بدايات الألفية، وشيوع القنوات الفضائية، وبرامج الفتوى على الهواء مباشرة، حيث يجلس رجل الدين لا ليلقى درسًا أعد له إعدادًا جيدًا، ولكن ليستقبل اتصالات المشاهدين، ويفتى لهم فى كل أمور الدنيا خلال مدة لا تتجاوز نصف دقيقة، وقد لفت نظرى من وقتها وحتى الآن أن معظم الاستفسارات لم يكن فى أمور الدين، بقدر ما كان فى أمور الدنيا، فقليلون أولئك الذين قد يسألون عن حكم من أحكام الصلاة والزكاة مثلًا، وكثيرون جدًا الذين يتعاملون مع رجل الدين على أنه طبيب نفسى، ومستشار اقتصادى، وقاضٍ، فالبعض يتصل ليسأل رجل الدين عن أفضل الطرق لاستثمار مدخراته، والبعض يشكو من أعراض واضحة لمرض نفسى، والبعض يعرض مشكلة اجتماعية عادية مع قريب أو جار، وكان اللافت، وما زال، أن ضيوف هذه البرامج لا يمتنعون إطلاقًا عن الإجابة عن أى سؤال أيًا كان، رغم أن الناس تسألهم فى أمور الدنيا وليس فى أمور الدين، ولا شك أن البرنامج النموذج لهذه النوعية من البرامج كان برنامج الشريعة والحياة، الذى قدمته فضائية عربية شهيرة، واستضافت من خلاله الشيخ يوسف القرضاوى كضيف دائم، وأذكر أن الرجل وقتها تطرق لتفاصيل العلاقة الخاصة بين الزوجين، ومدى جواز اقتباس بعض الممارسات من الأفلام الإباحية!، وأفتى بحل هذا وحرمة ذاك، وهى تفاصيل ما زلت أخجل من الحديث فيها حتى الآن.. وما أقصده أن الحديث فى هذه المواضيع ليس دور رجل الدين، إلا إذا كان ذلك سعيًا لتطبيق شعار إخوانى ساذج يسطو على الإسلام ويدعى أنه دين ودنيا، رغم أن معارف الدنيا الآن زادت ملايين المرات عن ذلك الزمن الذى نزلت فيه الرسالة، ورغم أن الرسول الكريم كان يقول: «أنتم أعلم بشئون دنياكم».. وكان من أسباب انتشار هذه الظاهرة الغريبة، التى يتحول فيها رجل الدين لطبيب واقتصادى وإخصائى نفسى واجتماعى وخبير علاقات زوجية، غياب الثقافة الحقيقية عن المجتمع، وغياب الدولة عن ممارسة دورها فى توعية الناس، وتراجع دور المثقفين، وانعزال النخب عن الطبقات الشعبية، وهو ما جعل الناس يلجأون لأى شخص يستطيع أن ينقل لهم معرفة، أو يرشدهم لتصرف، أو يساعدهم على حل مشكلة لم تساعدهم ثقافتهم على حلها.. وفى ظنى أن هذه الظاهرة العجيبة التى نكاد ننفرد بها يجب أن تتراجع، وأن يتوقف علماء الدين لدينا عن الفتوى فيما لا يعلمون، وأن تقتصر البرامج الدينية على العبادات والعقائد، وأن نطبق حديث الرسول الكريم: «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، وعلى الله قصد السبيل.