الجهد الاستراتيجي التركي فى طبعة ثلاثية الأبعاد
يؤمن النظام التركى الحالى بأن التوسع فى عملية التصنيع العسكرى، عبر ضخ مزيد من الاستثمارات سنويًا والتوسع فى تزويد هذا النشاط بما يمكن تأمينه من التكنولوجيا الحديثة- يحقق له مكاسب استراتيجية على أكثر من صعيد فى الداخل والخارج.
فى الداخل ينظر إلى المجمع الصناعى العسكرى باعتباره استثمارًا واعدًا يمكنه أن يضيف للناتج المحلى نسب نمو معقولة تعوض الإرهاق الاقتصادى العام الذى تواجهه الدولة، فوفق التقرير السنوى لـ«معهد ستوكهولم لبحوث السلام الدولى» (سيبرى) الصادر مطلع 2021، شهدت صادرات تركيا من الأسلحة نموًا بلغ 30% خلال الفترة الفاصلة بين 2016 و2020، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة لهذه الفترة، فى المقابل انخفضت وارداتها بنسبة 59% عن الفترة ذاتها، وهى نسب مؤثرة تلفت الانتباه، وتجعل الرئيس التركى يدفع قيادات «حزب العدالة والتنمية» إلى مزيد من الانخراط، ودعم هذا النشاط من خلال التوسع فى إنشاء الشركات الكبرى والأخرى الوسيطة المغذية، فضلًا عن تنظيم واحتضان المعارض الدفاعية السنوية لترويج منتجات هذه الصناعة على نطاق واسع.
عن ذات الفترة التى يجري القياس عليها «الخمسة أعوام» الماضية، استثمرت تركيا نحو 60 مليار دولار فى مشاريع التصنيع العسكرى، مما أوصلها لتحقيق 3 مليارات دولار حجم صادرات عن العام الماضى للمرة الأولى فى تاريخها.
وفى حال مقارنتها بدول أخرى ما زالت مهيمنة على هذه الصناعات الاستراتيجية، تظل هذه الأرقام ضئيلة بالطبع، لكن النظام التركى ينظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، كون هذه الاستثمارات لم تتجاوز عوائدها ربع المليار دولار من قبل.
تشرف «هيئة الصناعات العسكرية» التركية التابعة للرئاسة مباشرة، على الشركات الحكومية العاملة فى مجال التصنيع، والتى تعمل على عدد من المشروعات يبلغ 750 مشروعًا، حسبما أعلنه «إسماعيل دمير»، رئيس الهيئة، خلال مراسم افتتاح «معرض إسطنبول الدولى للصناعات الدفاعية- آيدف» فى أغسطس الماضى.
هذا المعرض السنوى الذى عقدت نسخته الـ15 هذا العام بمشاركة 83 دولة، فضلًا عن 1238 شركة تركية وأجنبية، يشير إلى حجم اهتمام الدولة التركية بهذا المجال، والذى تعزز بصورة واضحة فيما بعد محاولة انقلاب عام 2016، حيث اعتبر النظام حينها أنه بحاجة إلى إجراء تغييرات عميقة ما يشبه الثورة فى السياسة والاقتصاد والعلاقات الخارجية وكذلك فى الصناعات العسكرية، إذ بدأت تركيا بعــد محاولة الانقلاب الفاشلة فى الرد على ما كانت تعتبره من التهديدات الأمنية باستخدام مبدأ القوة الحازمة، وينسحب ذلك على كل أشكال الخصم من مكانتها، مما دفعها إلى اعتبار الصناعة العسكرية جزءًا لا يتجزأ من صورة تركيا فى الخارج.
المجمع الصناعى العسكرى التركى كان يتكون من 65 شركة فى عام 2002، الآن يضم نحو 1500 شركة تعمل فى هذه الصناعة بعدد من الخبراء والأيدى العاملة يصل إلى 75000 فرد، وإن ظلت «هيئة الصناعات العسكرية» التركية والدولة هى المتحكم الرئيسى فى إدارة هذه المنظومة، إلا أن المجمع يشمل أيضًا العديد من الشركات الخاصة الأخرى تشترك فى المشروعات بمستويات مختلفة.
فمن الثابت أن الصناعة العسكرية يتم توجيهها من قبل الشركات العامة المملوكة للدولة والمسئولين العسكريين، والتى فى الأغلب منها مملوكة للجيش نفسه، وبفضل التوسع فى هذه الشراكات وإدماج الشركات الخاصة القادرة على تطويع التكنولوجيا المتطورة فى نسيج إخراج المنتج النهائى فى مستوى منافس، أصبحت الصناعة العسكرية التركية قادرة على العمل بسرعة ومرونة وإنتاج المشاريع وتصدير مخرجاتها بسهولة.
وتعد الطائرات المسيرة «الدرونز» أشهر مثال لهذا النوع من التطوير التقنى والاستثمارى، حيث اكتسبت المُسيرة «بيرقدار» بطرازاتها المختلفة سمعة مميزة خلال السنوات الأخيرة، وفضلًا عن التوسع فى استخدام الجيش التركى لها على أراضيها فى قمع الأكراد المنتمين لـ«حزب العمال الكردستانى»، امتدت بالخارج فى مهام نوعية بكل من العراق وسوريا جنبًا إلى جنب مع مروحيات «آتاك» التركية أيضًا. إلا أن معيار التميز بالنسبة للقائمين على المشروع التركى، أن «بيرقدارTB2» اكتسبت شهرة فى الجهد العسكرى المتداخل الذى قامت به تركيا فى ليبيا وسوريا وإقليم قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وأنها تفوقت فى أكثر من مسرح عمليات على أنظمة الدفاع الجوى روسية الصنع.
أتاحت تلك النتائج العملية لأنقرة أن تدخل مرحلة تلقى طلبات لشراء أسراب كاملة من تلك المُسيرة، حيث تم بيعها لأوكرانيا وبولندا، وتنتظر لاتفيا أيضًا تسليمها صفقة تعاقدت عليها بالفعل. هذه المرحلة بدأت تبلور الرؤية التركية التى تمزج ما بين نفوذها السياسى، وتدخلها العسكرى بثقل واضح فى عدد من الملفات التى ترى أنها تحظى بالقدر الأكبر من الأهمية، لتأتى آلتها العسكرية المصنعة محليًا لتمثل الضلع الثالث لمثلث وزنها الاستراتيجى الافتراضى من وجهة نظرها، ووفق استثماراتها وجهديها الداخلى والخارجى.
أبرز الساحات التى عملت تركيا على وضع هذا المثلث موضوع التنفيذ فيها على الأرض، كانت وفق الترتيب الزمنى سوريا ثم ليبيا يليهما العراق ومن ثم مؤخرًا أرمينيا وأذربيجان، والأحدث فى تلك التحركات تأتى إفريقيا، التى لم تبدأ فيها بإثيوبيا كما يظن البعض، إنما وجودها مؤثر وفاعل فى دول الساحل الإفريقى امتدادًا لدول غرب القارة، وإن ظل المثلث لم تكتمل أضلاعه بعد إلا أن السلاح التركى هناك بدأ يظهر بصورة متنامية، البعض منه مع قوات الأمن لتلك الدول، والآخر يصل إلى كيانات وميليشيات انفصالية أو راديكالية، صار لها نفوذ يتعدى محاربة هذه الدول إلى محاولة اقتسام السلطة معها أو الاستيلاء عليها إن أمكن.
على جانب آخر، عندما واجهت أنقرة انسدادًا فى فرصها الدبلوماسية مع جيرانها الأقرب، اليونان وقبرص، فى الملف المتعلق بترسيم الحدود البحرية بالبحر المتوسط واستغلال ثروات المياة الاقتصادية، بدأت خلال العامين الأخيرين استخدام أسطولها العسكرى البحرى كى يرافق سفن الأبحاث والاستكشاف التركية، مما خلق أكثر من احتكاك خشن ما بين البحرية التركية وسفن استكشافية يونانية وقبرصية، ووصلت درجة الاحتقان فى بعض الفترات إلى حد تلويح الدول الأوروبية الكبرى بالتدخل لصالح اليونان وقبرص، بل مثّل هذا الملف فى ذاته إحدى القضايا الخلافية العالقة بين أنقرة وواشنطن حتى الآن.
فى النهاية هذا النموذج يمثل إضاءة إضافية على استراتيجية التحرك التركى ثلاثى الأبعاد، الذى صار بمثابة منهج عمل متكامل تُرصد له الميزانيات وتوجه فى نشاط استثمارى بعينه «التصنيع العسكرى»، وكلاهما يرتبط بملفات السياسة الداخلية والخارجية والمناطق الأهم للدولة التركية.