هواجس اللجوء الأفغانى والوقوف على أعتاب المجهول
بالتأكيد لن تبرح مخيلة العالم لسنوات مشاهد تدافع الأفغان للخروج من أفغانستان، وربما لعقود مقبلة، حسب مستقبل إدارة الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد من قبل حركة «طالبان»، التى أعلنت نفسها منفردة الوريث الشرعى لعشرين عامًا من السيطرة الأمريكية والدولية على مقاليد الأوضاع الأفغانية.
بعض التقديرات المبدئية يتحدث عن حجم لجوء متوقع ربما سيقارب نحو ثلث الشعب الأفغانى، خرج البعض منه خلال العقدين الماضيين ليستقر فى بلدان مجاورة وبعض من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ومن ثم تأتى الموجة الأحدث من الـ«تسونامى» البشرى غير المتوقع لتكمل هذا «الثلث» الذى تتحدث عنه التقديرات المشار إليها.
إجمالى عدد السكان وفق الإحصاءات شبه الرسمية يقدر ما بين ٣٥ و٣٨ مليون نسمة، وهى تقديرات تشمل الفترة منذ عام ٢٠١٦ إلى عام ٢٠٢٠، لذلك وبحسبة بسيطة يمثل الثلث الذى سيخرج من أراضيه نحو ١٢ مليون أفغانى، وهو رقم كبير سيحتل بالتأكيد موقعًا متقدمًا، على قوائم قضية اللجوء والنزوح العالمية المثقلة بالأساس.
إن بدت تلك التقديرات بها قدر من التشاؤم، إلا أن الهواجس بدأت فعليًا تعصف بكل من له ارتباط بهذه القضية من الدول المجاورة، أو المستهدفة بالنزوح الأفغانى المشروط بتاريخ من التعاون والتوظيف إبان فترة وجود قوات بلدان التحالف الدولى على الأراضى الأفغانية.
هذه الموجة الجديدة فجّرت الخلافات المبكرة بين الدول الأوروبية بعضها بعضًا، وبينها مجتمعة وفرادى وبين الحليف الأمريكى الذى ينظر إليه باعتباره مفجرًا لتلك المعضلة الجديدة، التى أيقظت فى المخيلة الأوروبية الموجة السابقة التى حدثت سنة ٢٠١٥ عندما تدفق ملايين من اللاجئين السوريين على الحدود الأوروبية. لذلك فمنذ تاريخ الخامس عشر من أغسطس يعكف المسئولون الأوروبيون على عقد الاجتماعات تلو الأخرى، لوضع استراتيجية واضحة للتعامل مع هذه الأزمة المحتملة.
ولعل أول ما رشح عنها أن الاتحاد الأوروبى قرر أنه سيعمل على وقف التدفق الكبير لطالبى اللجوء من أفغانستان، عبر تقديم المساعدة فى المنطقة والدفع بحماية قوية على الحدود، لكنه لم يقدم تعهدًا محددًا لاستقبال الأشخاص بشكل جماعى. فى الوقت الذى يظل التباين ما بين دول الاتحاد حاضرًا أمام دعوة رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين» لكل الدول، وفى مقدمتها الأوروبية بالطبع، على استقبال قسم من اللاجئين الأفغان الذين تم إجلاؤهم من كابول، مؤكدة ومتعهدة بأن الدول الأعضاء فى الاتحاد أو غيرهم ممن ستقوم بذلك ستتلقى دعمًا ماليًا سخيًا من أوروبا.
نشر مؤخرًا المركز الأوروبى لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات دراسة مهمة تحت عنوان «الاتحاد الأوروبى.. مساعٍ لمنع الهجرة الجماعية من أفغانستان»، أوضح من خلالها الانقسام الواضح ما بين الدول الأوروبية، على الأقل فى معسكرين واضحين التوجه، الأول يريد إظهار الوجه الإنسانى للقارة الأوروبية ودولها من خلال تحديد حصص لتوزيع اللاجئين بين أعضاء الاتحاد، والمعسكر الآخر المسيطر عليه اليمين المتشدد يرى أن توصد الأبواب بالأقفال والشمع الأحمر أمام أى من طلبات اللجوء الأفغانى المتوقع، وهذا محور تتزعمه النمسا إلى جانب بولندا والمجر بالطبع.
وقد أشارت الدراسة إلى بعض الملامح التى خرجت عن الدول الرئيسية للاتحاد فيما يخص هذه القضية، بداية من ألمانيا التى أعلنت عن أنها ستستقبل بعض الأفغان وإن لم تحدد العدد، مع تأكيد المستشارة ميركل على الموقف الألمانى الثابت فى الحرص على ضمان حسن التكفل باللاجئين الأفغان فى الدول المجاورة.
على جانب آخر، قامت فرنسا باستقبال عدد محدود قدر بـ«١٨٤ شخصًا» ليستكمل ما يقارب ٥٠٠ لاجئ، تعبيرًا عن توجه السماح فقط باستقبال عناصر من «النخبة» الأفغانية التى يسهل إدماجها مستقبلًا، فى نسيج الدول التى تتبنى هذه الرؤية.
على جانب آخر، برز الموقف البريطانى الذى بدا متفردًا إلى حد كبير، فقد أعلنت حكومة «بوريس جونسون» عن خطة تقضى باستقبال خمسة آلاف لاجئ أفغانى خلال العام الأول، على أن يرتفع العدد تدريجيًا إلى «٢٠ ألفًا» على مدى الخمس سنوات اللاحقة.
هذا بالرغم أن مغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبى رسميًا فى يناير ٢٠٢٠ كان أهم أسبابه الخلاف العميق حول الحد من السماح للمهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبى بالدخول إلى بلدانه بالدرجة الأولى دفاعًا عن قضايا الهوية والثقافة التى باتت مهددة وفق الرؤية البريطانية حينها.
وهذه المواقف المتباينة عادت لتوقظ مرة أخرى السيناريوهات المتضاربة التى انطلقت فى العام ٢٠١٥ وما بعده، فى وقت المزاج السياسى الأوروبى غير مستعد لتكرار ما حدث قبل ستة أعوام، لهذا وخلال الاجتماعات البينية الحثيثة التى جرت خلال الأسابيع الماضية، وجدت ألمانيا نفسها معنية بصياغة الجواب الأوروبى الآتى حول الأزمة الجديدة، هذه المرة من مقاربات مختلفة تتبنى مطالبة الاتحاد الأوروبى بالإسراع فى تمويل دول جوار أفغانستان، واعتماد السياسات التى تعطى الأولوية فى قبول طلبات اللجوء للأطفال والنساء والأشخاص الذين تعاونوا مع الدول الغربية بأفغانستان، فضلًا عن الأقليات الدينية المرجح أن تتعرض لتهديد مستقبلى بالغ وفق التقديرات.
القضية رغم بعدها الإنسانى الواضح، فإنها ستظل مقيدة بالاعتبارات السياسية والأمنية للدول التى ستتقدم لتولى مسئولية التعاطى معها، ففى الوقت الذى تتجه فيه الأنظار إلى أوروبا وبالأخص ألمانيا وفرنسا باعتبار مكانتهما بداخل الاتحاد، الأولى تستعد لاختيار مستشار جديد للبلاد، ويبدو فى الأفق أن هناك توجهًا لعدم تكرار سياسة ميركل باستقبال عدد كبير من اللاجئين وهو ما عبر عنه البرلمان، عندما صوت لصالح قانون يقضى بتحديد الأشخاص الذين سيستفيدون من حق اللجوء.
أما فرنسا فقد وجدت «مارين لوبان» زعيمة اليمين المتطرف هذه القضية فرصة سانحة للعب مرة أخرى بورقة اللاجئين والمهاجرين، الذى يشاركها فيه «ماتيو سالفينى» زعيم حزب الرابطة الإيطالى، باعتبار أن أقصى ما يمكن تقديمه لقضية اللجوء الأفغانى هو توفير ممرات آمنة للنساء والأطفال حصريًا، وأن خطوة واحدة تجاه التوسع فى ذلك يضع القارة الأوروبية بأكملها تحت نيران التهديد الإرهابى المحتمل. وليس بخاف على أحد من الساسة والمسئولين أن هذا التوجه، له من الأنصار والسوابق من ضربات الإرهاب ما يجعله تخوفًا فى محله أقرب للوجاهة ويلامس واقع الشعور المرير بالتخلى الأمريكى عن الحلفاء، المطالبين اليوم بالتصدى لأعقد مشكلات عملية الخروج الكبير التى لم يكشف عن ملامح مستقبلها بعد.