هل نتوقف عن الاستهلاك؟
جاءت لى ابنتى بقائمة الأدوات المكتبية التى تطلبها منها المدرسة، لاحظت أن تكلفتها توازى مرتب موظف حكومى تقريبًا، قلت لها ضاحكًا إن أدواتى المدرسية لم تكن تتخطى المئة قرش، أو أقل، بأى حال من الأحوال.. لم تكن تتخطى قلم رصاص وقلمًا جافًا ومسطرة وممحاة وبعض الكراريس البسيطة نشتريها من أقرب مكتبة وربما نتسلمها من المدرسة، كانت هذه الكراريس من إنتاج شركة الورق «رومنى» وهى شركة قطاع عام.. كان ظهر الكراسة ينطوى على قائمة إرشادات للنظافة والعادات الشخصية.. لم تكن مضرة بأى حال من الأحوال.. قائمة المستلزمات الآن تحتوى على عشرات القطع.. كلها مستوردة ومبالغ فى أسعارها.. تبيعها مكتبات معينة، فكرت أن الفارق بين قائمة أدواتى المتقشفة وبين قائمة أدوات ابنتى ليس فارقًا فى الحالة المادية بينى وبين أبى، ولكنه فارق فى نظرة المجتمع للاستهلاك.. نشأت فى أسرة من الطبقة الوسطى وما زلت أنتمى لهذه الطبقة، كان أبى موظفًا وأنا أيضًا موظف بمعنى ما.. الفارق إذن ليس بين الفقر والغنى ولكن بين حالة المجتمع فى الثمانينيات وبين حالته الآن.. المشاهدات اليومية تقول إن المصريين من أكثر شعوب العالم استهلاكًا وانشغالًا بالمظاهر.. أعرف طبعًا أن نسبة الفقراء مرتفعة، ولكن لدينا ٧٠ مليونًا غير أولئك المبتلين بالفقر.. يهتم المصريون بالطعام اهتمامًا مبالغًا فيه، وهذا يمكن ملاحظته فى الانتشار الكبير جدًا للمطاعم بمختلف أنواعها، وبالأرباح الكبيرة التى يحققها معظمها، وبالانتشار الواسع لسلاسل الهايبر ماركت، واكتظاظ عربات الشراء فيها، نفس الأمر نلحظه فى محلات فى المواسم مثل المولد النبوى والعيدين وغيرها.. الأسر البسيطة تبالغ فى تجهيزات العروسين حتى يقود هذا بعض أولياء الأمور للسجن لأنهم لا يستطيعون الوفاء بأقساط هذه المشتريات، رغم أن الزواج إيجاب وقبول وليس قائمة مشتريات.. يشترط بعض الأسر أن يشترى العريس شقة تمليك فيتأخر الزواج سنوات ويثقل كاهل العروسين بالديون، وتكون النتيجة حياة زوجية تعيسة محملة بالضغوط لأننا نهتم بشكل الحياة دون جوهر الحياة، من الناحية الإحصائية الشعب المصرى من أقل الشعوب ادخارًا.. الادخار هو طريق الاستثمار والتنمية، من يدخر مبلغًا يعيد استثماره وضخه فى الاقتصاد من خلال الاستثمار فى البورصة، أو إيداعه فى البنك، أو تشغيله فى مشروع، لكن انخراطنا فى الاستهلاك يجعل فرص الادخار قليلة، وبالتالى فرص النمو أقل، بعد حرب أكتوبر أتيحت للعمالة المصرية ميزة نسبية كبيرة فى أسواق الدول العربية، حوّل المصريون تحويلات كبيرة بالفعل، لكن تم تبديد معظمها فى الاستهلاك بدلًا من استثمارها فى الصناعة أو مجالات الاقتصاد المختلفة، بعضها راح فى شركات التوظيف الإخوانية، وبعضها فى بناء بيوت على الأراضى الزراعية، وبعضها فى شراء شاليهات مغلقة على سواحل مصر المختلفة.. السوق المصرية سوق عملاقة، وهذا يشجع الماركات العالمية على المجىء لمصر وافتتاح عشرات الفروع.. هذه الفروع تكون فى مراكز تجارية عالمية نسميها باسمها الإنجليزى «المولات»، هذه المولات تتيح بعض فرص العمل أثناء بنائها وبعد تشغيلها، لكنها أيضًا تحرضك على مزيد من الاستهلاك، الآن لدى الدولة ميل كبير للإصلاح الاجتماعى والثقافى ومحاربة عوامل النحر فى الشخصية المصرية، وهذا يستدعى مزيدًا من الحديث عن ضرورة الادخار.. الاستهلاك مفيد بالنسبة للاقتصاد ولكننا نريد أن نستهلك ما يفيدنا، نستهلك المنتجات المصرية، نستمر فى تقليل الاستيراد كما فعلت الدولة منذ أربع سنوات، نلفت نظر الموسرين إلى أن الاعتدال فى الاستهلاك دليل رشد وليس دليل فقر.. هناك طرفة تقول إن بيل جيتس أنهى غداءه فى مطعم وترك خمسة دولارات بقشيشًا للنادل.. فقال له: لقد كان ابنك هنا بالأمس وترك لى بقشيشًا خمسمئة دولار، ليرد جيتس: ابنى أبوه أغنى رجل فى العالم.. أما أنا فابن الرجل الذى كان يقطع الأشجار فى الغابة.. اعتدلوا يرحمكم الله.