فى ذكرى نجيب محفوظ.. اعترافات «أديب نوبل» عن الصعايدة والشيشة والصوفية وكرة القدم
لم يكتب نجيب محفوظ سيرته الذاتية ولم يفكر في الأمر على الإطلاق، إلا أن كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، للناقد رجاء النقاش، كان الأقرب لتسجيل جانب كبير من حياة وإبداعات "أديب نوبل".
فكرة الكتاب عرضها «مركز الأهرام للترجمة والنشر» على «النقاش» في أوائل عام 1990، فرحب بها، وبدأ في الاستعداد لها مع الأديب الراحل.
يقول "النقاش" في مقدمة كتابه: «كانت موافقتي على فكرة الكتاب بهذه السرعة، وعلى غير عادتي في التردد والمراجعة والتأني، تعود إلى أنني أحببت الفكرة كلها من اللحظة الأولى، فكيف يتاح لي وأنا العاشق لنجيب محفوظ، فنانا وإنسانا، أن أجلس معه جلسات طويلة ومفتوحة وصريحة لمدة عام على التقريب؟».
هنا بعض الحكايات والأسرار التي رواها نجيب محفوظ لـ"رجاء"، في لقاءاتهما التي بدأت في أغسطس من عام 1990، واستمرت حتى أواخر عام 1991.
بدأت تثقيف نفسي أدبيًا بعد التخرج فى الجامعة.. وجذبتني «الصوفية» لكن لم أقتنع برفضها للحياة
«إن في أعماق قلبي وروحي إيمانا بالله لم تنتزعه مني دراستي للفلسفة ولا تفكيري المتصل في مشاكل الإنسان والمجتمع والكون».. هكذا تحدث نجيب محفوظ عن علاقته بالله والإنسان في لقاءاته من رجاء النقاش، موضحا: "لم أقرأ في حياتي كتابا واحدا أكثر من مرة باستثناء كتاب واحد هو القرآن الكريم، وترجع عدم قراءتي للكتاب الواحد أكثر من مرة إلى أنني بدأت تثقيف نفسي ثقافة أدبية في وقت متأخر نسبيا من حياتي، وبالتحديد بعد عامين فى تخرجي في الجامعة".
وأضاف: "أما علاقتي بالقرآن الكريم والتي بدأت في وقت مبكر من حياتي، فإنها توطدت أكثر بعد تعلقي بأصوات كبار القارئين في ذلك العصر، خاصة الشيخ على محمود، الذي كان يملك صوتا موازيا للوطن".
وكشف "محفوظ" خلال الكتاب عن أنه رغم عدم إيمانه بأفكار الصوفية ومعتقداتهم كما يؤمن بها المتصوفون إلا أنه وجد في قراءة كتبهم وتأملها راحة عقلية ونفسية كبيرة، مضيفا: "جذبتني في الصوفية فكرة السمو الروحي، وفي المقابل لم أقتنع بفكرة رفض الدنيا، فلا أتصور مذهبا دينيا يرفض الدنيا أبدا، وظهر رأيي بوضوح في رواية (اللص والكلاب) في شخصية الرجل الصوفي الذي يلجأ إليه (سعيد مهران) عسى أن يجد عنده حلال لمشكلته، فلا يجد سوى لحظات من الراحة النفسية، هي أقرب إلى المسكنات، وليس فيها أي نوع من الحل الأساسي أو الدواء الشافي".
أنا مش بتاع سلطة ولم تكن هدفي.. وكنت من عشاق حزب "الوفد" ولم أنضم إليه
لم تكن في يوم من الأيام هدفا لنجيب محفوظ، وذلك لسبب بسيط، هو أنه لم يستطع الجمع بين السلطة والأدب، ويوضح: "الأديب الذي يقدس مهنته ويعشق قلمه يفضل أن يبتعد عن السلطة بهمومها ومتاعبها والتزاماتها، وفي خلال المدة التي عملت فيها بمؤسسة السينما – وتبلغ حوالي عام ونصف العام – لم أقرأ أو أكتب كلمة، وكان كلي وقتي محصورا في الوظيفة وما يتصل بها من متاعب وقيود".
ويضيف: "ليست السلطة هي الهدف الذي يتوافق مع مزاجي وطبعي، بل إنني أعتبرها معطلة لي عن مهنتي الأساسية، وهي الأدب، والسلطة الحقيقية التي طالما حلمت بها هي سلطة الأدب والفن، وليست السلطة الإدارية، فالأدب في حد ذاته يمكن أن يكون سلطة مؤثرة إذا أحسن الأدب استخدامه، والأديب يمكن أن يكون صاحب سطوة ونفوذ وتأثير على الرأي العام بكتاباته، خاصة إذا تحولت هذه الكتابات إلى أعمال سينمائية أو تليفزيونية أو مسرحية أو إلى أي شكل من هذه الأشكال الجماهيرية، وسلطة الأدب أسمى وأرفع وأبقى من السلطة الإدارية".
ويواصل: "من أجل الأدب ابتعدت عن العمل السياسي، فلم أنضم إلى حزب أو تنظيم سياسي لا قبل الثورة ولا بعدها، لقد كنت من أنصار حزب (الوفد)، بل من عشاقه، ولا يقل ولائي له عن ولاء أي زعيم من زعمائه، كما لم تجر أي انتخابات برلمانية إلا واشتركت فيها بصوتي لصالح (الوفد)، كما لم تقم مظاهرة مؤيدة له وأتيحت لي الفرصة للمشاركة فيها، وأنا شاب إلا وفعلت ذلك، ومع هذا كله لم أنضم إلى لجنة من لجان الحزب، ولم تكن هناك أي صلة رسمية تربطني له، حتى الدكتور محمد مندور وعزيز فهمي، وهما من كبار كتاب "الوفد"، فقد عرفتهما عن طريق الأدب لا عن طريق السياسة".
الفوز بـ«نوبل» لم يكن من بين أحلامى.. واعتبرت أنباء فوزى بها «مجرد هلوسة»
تضمنت اعترافات الأديب نجيب محفوظ للناقد رجاء النقاش اعترافا مفاجئا، هو أن الحصول على جائزة "نوبل" في الأدب لم يكن من بين أحلامه، ولم يتطلع إلى تلك الجائزة في يوم من الأيام.
ويعود ذلك، من وجهة نظر الأديب العالمي، إلى أسباب عديدة، منها أنه من أبناء جيل نشأ على «عقدة الخواجة» التي أحدثت في نفوس هذا الجيل نوعا من عدم الثقة بإمكانياتهم، خاصة أن ذلك العصر كان مليئا بالعمالقة من الكتاب العالميين، وغيرهم من العرب، الذين كان يرى أنهم يستحقون الفوز بجدارة.
وعن كواليس تلقيه أنباء الحصول على جائزة «نوبل»، كشف الأديب الراحل أنه كان نائما كعادته بعد تناوله الغداء، لكن لم تمض دقائق معدودة على نومه حتى أيقظته زوجته قائلة في لهفة: «قوم.. قوم.. (الأهرام) اتصلوا بك وبيقولوا إنك أخذت جائزة نوبل».
وذكر "محفوظ" أنه اعتبر كلام زوجته مجرد هلوسة، إذ كانت تتحدث دائما عن الجائزة وأحقيته بها، ورغم اتصال محمد باشا، الصحفي بـ"الأهرام" به وإبلاغه بأمر الجائزة إلا أنه اعتبر المسألة مجرد دعابة.
وأضاف أنه، وبعد دقائق معدودة من الاتصال، دق جرس باب الشقة وكانت المفاجأة أن من يطرق الباب هو سفير السويد وحرمه، ومجموعة من المرافقين، وهنأه السفير وقدم له هدية رمزية عبارة عن "قدح من البنور"، أشبه بصناعات خان الخليلي.
المقاهى لعبت دورًا كبيرًا فى حياتى.. والشيشة عطلتنى أثناء الكتابة فاستبدلتها بالسجائر
إلى جانب تركيز كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» على الجانب الأدبي من حياة الأديب العالمي الراحل، إلا أن الناقد رجاء النقاش سلط الضوء أيضا على بعض الجزئيات المتفرقة في حياة "أديب نوبل"، والتي لها قيمتها وطرافتها وعذوبتها الخاصة بها، بمعنى أنه اهتم بالجانب الإنساني في شخصية "محفوظ"، بتقديم لمحات من بعض تجاربه الخاصة وأفكاره ومشاعره حول الحياة والناس.
وعن اعتياده الجلوس عن المقاهي قال "أديب نوبل": "لعبت المقاهي دورا كبيرا في حياتي، وكانت بالنسبة لي مخزنا بشريا ضخما للأفكار والشخصيات، ومن أوائل المقاهي التي جلست عليها فترة طويلة من حياتي قهوة (قشتمر)، وكنت قتذاك من سكان العباسية، ولي فيها شلة ضخمة، جمع بين أفرادها حب كرة القدم وحياتنا في نفس الحي كجيران، ولم يكن لأعضاء هذه الشلة أي علاقة بالأدب".
وعن طقوس الكتابة لديه، كشف "صاحب الثلاثية" عن أن النظام الذي اتبعه في الكتابة اختلف باختلاف المراحل التي مر بها في حياته، وهي ثلاث: مرحلة الوظيفة، مرحلة ما بعد المعاش، ومرحلة ما بعد جائزة "نوبل".
وتابع: "في مرحلة الوظيفة كنت أفرغ من عملي في الثانية ظهرا، وأعود إلى البيت لتناول الغداء ثم أستريح لبعض الوقت، ثم أجلس على مكتبي عندما تدق الساعة الرابعة، وأبدأ بالكتابة لمدة ثلاث ساعات، ثم تليها ثلاث ساعات أخرى للقراءات المتنوعة، وكنت أبدأ الكتابة أولا، لأنني إذا جعلتها بعد القراءة، فلن أنام الليل، لأن الكتابة تصيبني بصداع يتلوه الأرق، وكان علي أن أستيقظ مبكرا لألحق مواعيد العمل، وكان الموظف في تلك الأيام ملتزما إلى أقصى درجات الالتزام، لأنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك".
وأضاف: "في مرحلة الوظيفة أيضا كنت أمنح نفسي إجازة من الأدب يومي الخميس والجمعة، إلى جانب الإجازة الإجبارية السنوية طوال شهور الصيف بسبب الحساسية التي تصيب عيني".
وأشار إلى أن الكتابة عنده ترتبط بعادتين؛ الأولى هي التدخين، الذي مارسه منذ أن كان طالبا في المرحلة الثانوية، إذ كان في البداية يدخن الشيشة ثم وجد أنها غير عملية، ففي أثناء الكتابة كان يضطر إلى التوقف، بالنزول إلى المقهى لتدخين الشيشة، ثم استبدل الشيشة بـ«البايب»، ومن بعدها السجائر، لأنه لم يجد أسهل منها.
واستطرد: "إلى جانب السجائز، أحب أن تكون هناك خلفية موسيقية أثناء الكتابة، أجعلها على هامش الشعور ولا ألتفت إليها، ثم إنني لا أتناول أية مشروبات بما فيها الشاي والقهوة، ثم إنني لا أستطيع الكتابة إلا على مكتبي في البيت، أما خارجه فلا يمكنني الإمساك بالقلم، وكل أعمالي الروائية كتبتها في البيت، باستثناء السيناريوهات، فأغلبها قمت بكتابتها على المقهى، وذلك لأنها لا تحتاج إلى نفس درجة التركيز التي تحتاجها الروايات".
لولا الأدب لأصبحت نجمًا فى كرة القدم.. وحرصت على رياضة المشى حتى بعد المعاش
عندما خرج نجيب محفوظ على المعاش، لم يختلف نظام الكتابة كثيرا، حيث خصص فترة الصباح للكتابة، والذهاب إلى المقهى مبكرا، ثم يعود ليبدأ الكتابة لمدة ثلاث ساعات، أما القراءة فكانت في فترة ما بعد الظهيرة وحتى بدايات الليل.
وقبل حصوله على جائزة «نوبل» أصيب الأديب العالمي بضمور في شبكية العين، مما جعل موضوع القراءة والكتابة من الأمور العسيرة والمرهقة، وسبب له هذا الأمر إزعاجا شديدا، وأصبحت أقصى مدة يجلس فيها إلى مكتبه لممارسة الكتابة هي ساعة واحدة في اليوم.
«في أثناء سنوات الوظيفة كنت أنام في الحادية عشرة مساء وأستيقظ قبل السادسة صباحا، حتى يتسنى لي ممارسة رياضة المشي».. هكذا قال "محفوظ" عن رياضته المفضلة، مستطردا: "تلك الرياضة التي حافظت عليها طوال حياتي، كنت أنزل من ترام العباسية وأسير على قدمي حتى أصل إلى وزارة الأوقاف، مرورا بشارعي سليمان باشا وقصر النيل".
أما بعد الزواج وانتقاله إلى شقته بالعجوزة فقد ازدادت المسافة التي كان يمشيها، فكان يسير من شارعي الجبلاية والبرج، ثم كوبري قصر النيل إلى وزارة الأوقاف، وكانت المسافة تستغرق ساعة يوميا، وبعد المعاش حافظ الأديب الكبير على هذه العادة، وبدلا من الذهاب إلى الوزارة كان المطاف ينتهي إلى مقهى «علي بابا» في ميدان التحرير.
وحسب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»؛ كان أديب نوبل «كابتن» في كرة القدم، واستمر عشقه لها حوالي عشر سنوات متصلة، في أثناء دراسته بالمرحلتين الابتدائية والثانوية، مؤكدا: "لم يأخذني منها سوى الأدب، ولو كنت داومت على ممارستها فربما أصبحت نجما من نجومها البارزين".
ذهبت إلى الريف مرة واحدة فى طفولتى.. و"الكسل" سبب عدم زيارتى للصعيد
علاقة الأديب العالمي بالقاهرة كانت غريبة، فلم يحب حياة الريف أو الصعيد، ورصد الناقد رجاء النقاش ذلك في الكتاب، ناقلا عن "أديب نوبل" قوله:" لم أذهب إلى الريف إلا مرة واحدة عندما كنت طفلا، أخذني أقرباء والدي من أسرة (آل عفيفي) بالفيوم لقضاء الصيف هناك، وكانوا يملكون دوارا كبيرا، أمامه حديقة عنب، وبجانبه أرض فضاء واسعة كنت ألعب فيها كرة القدم، ورغم استمتاعي إلا أنني طلبت إعادتي إلى القاهرة، ولم يمض على إقامتي في الفيوم أسبوع واحد، حاولوا إرضائي لأبقى، ولكنني كنت شديد التصميم فأعادوني".
وأضاف: "كانت تلك هي تجربتي الوحيدة في الريف، وخلال هذه التجربة لم أر الفلاحين ولم أتعمق في تفاصيل حياتهم، وربما كان ذلك هو السبب القوي الذي جعلني لا أتناول حياة الفلاح وقضاياه في رواياتي، بعكس الطبقة العاملة المسحوقة في المدينة والتي تناولتها بشكل مكثف، وإن كنت أعتقد أن المعاناة متشابهة في الحالتين".
وتابع: "وإذا كانت لي تجربة واحدة مع الريف، فإنني لم أذهب للصعيد في حياتي كلها، ولم أزر الأقصر أو أسوان أو أيا من الأماكن الأثرية المشهورة هناك، مع أنني أسمع أنها مناطق جميلة ويأتي إليها السائحون من كل أنحاء العالم، ولكنه الكسل، ورغم عدم زيارتي للصعيد، فقد تعرفت عليه من خلال الأعمال الأدبية التي تناولته مثل رواية (دعاء الكروان) و(الأيام) لطه حسين، وما زالت معرفتي بالصعيد تتم من خلال القراءة والاستماع إلى الآخرين".