أن تكون كاتبًا فى أُمة لا تحب القراءة
قبل قليل من بدء فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب فى كل سنة، تنتشر فى الأفق الافتراضى موجة من التعليقات التى يفترض كاتبها فى نفسه حس الدعابة، أو خفة الدم، على أنها فى تصورى دعابة سمجة، لا تستحق الرد عليها بغير عبارة الفنان عمرو عبدالجليل فى فيلم «سوق الجمعة»: «أبو تقل دمك»، هى ليست بالنص كما جاءت بالفيلم، لكن دعونا نعتبرها هكذا.
الجملة التى تتردد كثيرًا قبل بداية المعرض، وقبل كل معرض، نصها تقريبًا: «أنا الوحيد اللى مالوش كتاب فى المعرض السنة دى»!
والحقيقة فى تصورى أن كاتب هذه العبارة والمتفاعل معها إيجابًا لا يمكن تصنيفهم إلا كجهلة بمعنى أن تكون كاتبًا فى بلاد كبلادنا، لا تحب الكتاب، ولا تحترم الكاتب، وحيث مجموع القراء فيها لا يصل فى أفضل التقديرات إلى نصف بالمائة، وربما كان أقل كثيرًا، وحيث لا يصل من يجيدون القراءة من هذه الفئة إلى نصف بالمئة من هذا النصف، ولا يملك غالبيتها رفاهية المغامرة بشراء كتاب يغالى الناشر فى تسعيره بحجة ضعف التوزيع، رغم أن المعادلة البسيطة تؤكد أنه كلما زاد عدد النسخ المطبوعة قلّت تكلفة النسخة الواحدة، وأن الكتاب كسلعة مضمونة الربح، إذ يمكنها أن تعيش لمئات السنين، تتغير فيها أسعار الأوراق وإمكانيات القراء.
وسط هذا الواقع المؤلم لا يحصل من تصيبه حرفة الكتابة إلا على التقليل من منتجه، والعنت من ناشره، ورغم ذلك يصر على الاستمرار والعمل والمحاولة، ثم يأتى متنطع خفيف الظل ليسخر منه، ومن فرحته بصدور كتابه أو قرب صدوره، دون أن يعرف أى شىء عما يسبق هذه اللحظة من معاناة وقرف واتصالات، وأمور تصل فى بعض الأحيان إلى الدفع مقابل النشر، خصوصًا مع انتشار ظاهرة «الناشرين التجار»، التى تطول عددًا من كبار الكتّاب، ممن يجهل أسماءهم الناشرون الذين يأتون فى الغالب من أى أكشاك لبيع الكتب المزورة فى الشوارع والنواصى، وبعضهم لا يجيد القراءة، ولا يعرف عن الكتاب إلا أنه «بضاعة ممكن تعيش» ولا تفسد بالتقادم.
ومما يزيد من سوء المشهد انتشار ظاهرة دور النشر الموجهة التى تعمل على استقطاب الشباب الحالمين بمستقبل أدبى، وتوجيههم إلى نوعيات محددة من الكتابة منزوعة الخيال، مرة بدعاوى القيم والأخلاق وما شابه من عبارات لا تمت بصلة للكتابة الأدبية، ومرة بوهم «المحرر الأدبى» الذى يعرف طريق الجوائز ووصفاتها الناجعة، والذى يقتصر دوره غالبًا على «تشفية» الكتب والروايات، كأى جزار فى مذبح، فيعمل على إخصائها مما يميز كاتبها، أو يجعل له صوتًا يخصه، ويحولها إلى «بضاعة منزوعة الروح»، فلا يبقى من الرواية أو القصة أو حتى قصيدة الشعر سوى بعض المواعظ المستهلكة، والتوصيات الأخلاقية «الدينية فى غالبيتها»، وحكايات التنمية البشرية، لا تختلف عن غيرها إلا فى صورة الغلاف واسم الكاتب ولا تصلح إلا لجوائز بعينها، ومسابقات لا قيمة لها فى مسار أى أديب أو كاتب حقيقى.
فى وقت مثل هذا، تكون الرغبة فى الكتابة والحلم بها والتفكير فيها والسعى إلى تحقيقها وتحويلها إلى واقع ملموس، شرفًا ينبغى التفكير ألف مرة قبل التقليل منه، أو السخرية ممن يقدم عليه، ولو بعبارة سمجة لا تضيف شيئًا لقائلها، ولا تخصم ممن تقال عنه، ولا تستحق سوى الانصراف عنها وعن قائلها، مع التوصية من جديد بعبارة النجم عمرو عبدالجليل: «أبو تقل دمك».