الانحياز للقيمة
تابعت، مثل ملايين غيرى، مداخلة الرئيس السيسى أمس الأول، المداخلة كانت مع الإعلامية عزة مصطفى، الرئيس كان يعلق على كلام سمعه من مثقف وكاتب مصرى من جيل الوسط، تحليلى النهائى للمداخلة أنها تعبير عن الانحياز للقيمة، تقدير لمن يحاول صناعة الفن الجاد، الأهم أنها إشارة لعودة الدولة المصرية لدورها فى صناعة الوجدان العام للمصريين.. هذا الدور كان موجودًا حتى عام ٢٠٠٠ تقريبًا، كلنا يذكر الأعمال الدرامية العظيمة التى كانت تجمع الشعب كله أمام الشاشة، لا أحد ينسى مسلسلات مثل: «رأفت الهجان» و«ليالى الحلمية» و«الشهد والدموع»، وعشرات الأعمال الأخرى، هذه الأعمال كان يكتبها مثقفون مصريون كبار، أسامة أنور عكاشة وصالح مرسى ووحيد حامد ومحفوظ عبدالرحمن، ويسرى الجندى، لم يكونوا «صنايعية ورق» كما يطلق على السيناريو الآن، كانوا مثقفين وطنيين أتيحت لهم الفرصة لصياغة الوجدان الجمعى للمصريين، كانوا ينتمون لجيل الستينيات ثقافيًا، لكنهم تعاونوا لأقصى درجة مع مؤسسات الدولة المصرية لتعزيز ما هو مشترك فى حياة المصريين، دافعوا عن قيم الوطنية، العدل، الوحدة الوطنية، العداء للفساد.. مع قدوم عام ٢٠٠٠ امتدت يد قادرة لتجمع كل هؤلاء الكبار وتضعهم فى صندوق مغلق.. مع عام ٢٠٠٠ تزامنت ظواهر مختلفة.. بدأ الإعداد لتوريث الحكم يظهر على السطح، أصبحت إجراءات الخصخصة حقيقة واقعة على الأرض، أقيل كمال الجنزورى آخر رئيس وزراء من رجال الدولة المصرية الذين تم إعدادهم فى مؤسساتها، وعوقب بقسوة على عدم تماشيه مع التغيرات الجديدة، ظهرت قنوات رجال الأعمال وتراجع التليفزيون المصرى عن إنتاج الأعمال الدرامية التى كانت تجمع المصريين ولا تفرقهم، ظهر داعية إخوانى ليخترق النخبة المصرية، ويقدم نمط التدين الأمريكى فى طبعة إسلامية وتحول لنجم مجتمع فى شهور قليلة، توارى مثقف نجم مثل أسامة أنور عكاشة بعد سنوات من المجد، وتركز نشاطه فى كتابة مقالات يحاول أن يفضح فيها أطراف المؤامرة، أصبح الدعاة الذين أسميتهم بالدعاة الجدد نجوم المجتمع وصائغى الوجدان الجمعى ورموز الثقافة العامة، بعد كل هذه التغييرات وفى ٢٠٠٤ تم تعيين رئيس وزراء جديد، كان عدد كبير من الوزراء من وكلاء الشركات العالمية والأمريكية، وكان بعضهم يحمل جنسية مزدوجة، فى نفس العام تضاعف حجم الاستثمارات الأجنبية للضعف، وكان مجىء الاستثمارات مرتبطًا بهذه التغيرات بما فيها الجانب الخاص بالإعلام، والفن، والثقافة، واختفاء ما يجمع المصريين، ويحافظ على وعيهم، انخرط الإعلام فى نشر كل ما يفرق المصريين بوعى ودون وعى، وأدت حلقة عن البهائيين لإشعال النار فى منازلهم، وساهمت حلقات أخرى فى إثارة فتن طائفية مختلفة، تم تقديم الإخوان كطرف أصيل فى المشهد الوطنى وأدى هذا لاستيلائهم على الحكم فيما بعد.. هذه كلها خلفيات مهمة لفهم دعوة الرئيس السيسى للكتاب الجادين لكتابة أعمال تسهم فى إعادة الوعى المصرى، هذا الوعى تم التآمر عليه بفعل فاعل، وكانت المؤامرة على الوعى بداية سقوط الدولة المصرية.. دعوة الرئيس السيسى تجىء بعد سنوات ثلاث خطا فيها الإعلام المصرى خطوات جادة فى هذا الاتجاه، وبعد إنتاج أعمال وطنية جادة مثل: الاختيار وهجمة مرتدة وغيرهما، هذه الدعوة تتطلب من المسئولين عن الإعلام البحث عن مزيد من المواهب، واستعادة الكتاب الذين استقطبتهم جهات إنتاج ومنصات غير عربية، لأن هؤلاء تعلموا فى مصر، ومصر هى التى صنعت موهبتهم، من المهم أيضًا الالتفات لدور المخرجين الموهوبين فى صناعة الدراما، والمزاوجة بين الكاتب الموهوب، والمخرج القدير، ومسلسل مثل «القاهرة: كابول» مثلًا كان يمكن أن يصبح أكثر خلودًا لو أخرجه مخرج مخضرم له سابقة عمل مع كبار الكتاب، ولا يعنى هذا أن المسلسل لم ينجح، ولكننا نتحدث عن أعمال نريد لها نجاحًا مثل نجاح رأفت الهجان وليالى الحلمية، أخيرًا يثبت الرئيس السيسى يومًا بعد يوم أنه مصلح كبير، وأنه مُلم بتفاصيل التفاصيل فى المسألة المصرية، وأنه يدرك كل شاردة وواردة أدت إلى سقوط الدولة المصرية بما فيها الأخطاء التى ارتكبتها الدولة نفسها.. وها قد آن أوان الإصلاح.