حوار بين جيلين «2_3» صلاح بوسريف.. الشِّعر معرفة ولم يعد إلهاماً
في حوار بين جيلين، يتابع الشاعر والناقد التشكيلي الشاب عز الدين بوركة مع الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف والي، يعد واحدا من أبرز شعراء جيل الثمانينات في المشهد الثقافي والشعري المغربي، في الحلقة الفائتة تحدث الشاعر والناقد صلاح بوسريف عن خروجه وانقلابه وجيله عن ما هو سائد في قالب القصيدة المغربية في المغرب والوطن العربي.
وأشار إلى أنه لا يمكن للمثقف أن يكون دون وعي سياسي، وهذا الوعي إلى جانب هذا تحدث عن بداياته الأولى مع ممارسة الفن التشكيلي.
وإلى نص الحوار الحوار:
رغم هذا الانعطاف فالشكل البصري والجمالي لتأثيث صفحة النص وتوضيب البياض والسواد داخل رقعة المكتوب، ظاهر وطاغ.. هل هو حنين إلى البدايات؟ أم اشتغال "مختلف" يبحث عن كتابة "نص شعري"، حتى لا نقول قصيدة وسنأتي لاحقا للأمر، في ظل كل هذا "الصخب" الموجود؟
هذه ملاحظة مهمة. وكما أشرتُ، قبل قليل، فالعين عندي صارت في الشِّعر مثل عين الماء في النص الشِّعري، كلما مرَّت على تربة ما أو انسابت فيها، تحولها إلى شجر وخضرة وورد، بل وزُرقة. وهذا من طبيعة الشِّعر، لأن الشِّعر، كما قال نزار قباني، رسم بالكلمات، أو الكلمات وهي تَرْتَسِم أو ترسُم.
حديثنا عن الرسم والفن والتشكيل، يقودنا الأمر للحديث عن النقد، لقد اخترتم النقد الشعري ميدانا تطرحون فيه قضايا كثيرة مرتبطة بالإنساني والجمالي والكوني.. وبالمقابل كان الاشتغال على النص البصري، لوحة أو غيرها، قليلا..! فهل هو نوع من التخصص أم اختيار مرده لأمر ما؟
كما أشرت في جواب سابق، الشِّعر هو معرفة، ولم يعد إلهاماً وشيئاً ينزل علينا من سماء ما. لذلك الشاعر مُطالَب بالاتصال بحقول المعرفة والفن بكل تشعباتها، وما تحتمله من اكتشاف، بما في ذلك الموسيقى والرقص والنحت والمعمار. والعين، هنا تعمل، وتنتعش، وتكتشف، وتنفتح أكثر في اتجاه الشمس.
الشاعر، اليوم، لا بد له من نظرية يعمل في ضوئها، وهذا ما كان عند كبار الشُّعراء، كان لهم مشروع شعري ـ نظري، ما يُتِيح وضوحاً في الرؤية، وفي العلاقة بالشعر وبالكتابة، لا أن نكتب دون أن نستطيع تبرير ما نكتبه، أو لماذا هو بهذا المعنى لا بغيره. فأنا لست ناقداً، أنا شاعر يقرأ الآخرين بصوت عال، ومن خلالهم أتعلَّم كيف أتجاوز نفسي من خلال تجاوزهم، فأنا لست ناقداً محترفاً، متفرغاً للنقد، بل أنا شاعر أتجسَّس على كتابات غيري من الشُعراء.
عطفا على سؤال سابق، تتحدثون عن "ما بعد القصيدة"، ولا تحبذون مصطلح ومفهوم "ما بعد الحداثة"، بينما المفهومان معا يحملان دلالة بعدية، ما بعد، أي تجاوز وبحث عن اختراق المألوف في ظل إحداث أزمة للخروج منها، فكل معرفة أدبية أو علمية هي وليدة أزمة، والقصيدة هي أزمة كلاسيكية، بحثتم عن ما بعدها، كما سعى آخرون للبحث عن ما بعد "الحداثة".. لماذا إذن ليست هناك حداثة بعدية ولكن يوجد نص شعري ما بعد القصيدة؟
هناك فرق كبير بين المفهومين، وبين ما يحتمله كل مفهوم من دلالات وإيحاءات، أيضاً. ما بعد القصيدة، هو تجاوز للماضي، لشعرٍ كُتِبَ في سياق شكل وبناء شعريين، ليس ما نحن عليه اليوم. القصيدة، هي بناء مسكون، مأهول، لا هامش فيها للاختراق، سوى في مستوى التركيب أو المجاز، أما الإيقاع، فالتفعيلة في سياقها التقابل، [صدر عَجُز]، أو في سياقها «الحُرّ»، كما سمَّتْه نازك الملائكة، باعتمادها على المفهوم الإنجليزي الذي لا يعني نفس الشيء، ظلت هي الشِّعْر، هي الدَّال المهيمن على المفهوم، ما جعل «الشعر الحر» نفسه، يبقى في سياق ماضوي، وعينه على الحداثة. لم يحدث قَطْع جذري، أو اقتراح شعر آخر، بمفاهيم وتصورات ورؤى أخرى. «قصيدة النثر»، لا حِظ خلل المفهوم، وهو آتٍ من خلل الترجمة التي تُقابِل Poéme في الفرنسية بـ «قصيدة» في العربية بدل نص شعري، ثم لماذا الإلحاح على صفة النثر، التي لا تعني أي شيء، إذا ما كان الشِّعر عندنا هو لغة قائمة بذاتها، لا تحتاج إلى حوامل، أو مبررات، بها نبرر النثرية الموجودة فيما نكتبه. ثمة اختلالات معرفية كثيرة علينا مراجعتها والتدقيق فيها، وهذا لم يحدث في هذا المستوى.
ما بعد الحداثة، في ثقافةٍ، وفي مجتمعٍ، وفي سياقات فنية جمالية ما تزال متعثرة، يغلب عليها التقليد، والمؤسسات تعمل على الترويج للتقليد وللمفاهيم والتصورات القديمة، في المقررات المدرسية والجامعية وفي الإعلام، لا يمكن أن تكون مفهوماً يعكس هذا الانتقال أو الطفرة غير الدقيقة، والتي لا صلة لها بالواقع. هذا من جهة، من جهة أخرى، ما بعد الحداثة، هي نفسها الحداثة في صيرورتها، في مراجعتها لمفاهيمها وتصوراتها، وفي نقدها لذاتها، ما يضع الحداثة نفسها، دون حاجة إلى هذه الما بعد التي تشبه تعبير النثر في القصيدة. مفارقة عجيبة، في مفهومين، كلاهما غير دقيق، ولا يعكس واقع المعرفة والشعر والفن في الثقافة العربية الراهنة.
فأنا لا أستعمل المفاهيم والتصورات جِزافاً، أو لأكون متقدما في مفهوم ما على غيري، أو أستجيب لموضة أو لنزوة ما. حرِصتُ في ما أكتبه وأقوله على التأصيل للمفاهيم والتدقيق فيها، بالتأمل والإنصات والمراجعة، وهذا ما لا نجده عند من يتلقفون المفاهيم، يروجون لها، دون معرفة بها، وبما تُكِنُّه في نفسها من خلل وعطب وتشوُّش وارتباك.
هل "ما بعد القصيدة" تتضمن أساليب النثر المعاصر؟ أم هي كتابة شعرية مفتوحة على ما لم يُكتب بعد؟ وهل تتضمن البرفورمانس والمسموع وغيره، من أداء وتمثيل وتصوير وتجسيد (من الجسد) النص الشعري؟ وما دور باقي الفنون، وحتى الفلسفات، في الشعر اليوم، ونحن نتحدث عن "موت الشعر" و"موت الفلسفة" وميتات أخرى بلغت عنان السماء؟ (ونحن نعلم اهتمامكم بالرقص والموسيقى)!
اسمح لي أن أدقق معك بعض الأشياء التي جاءت في السؤال، تعكس ما قلتُه في ما قبل هذا السؤال. لماذا ما زلتَ تنظر إلى الشعر، بالتمييز فيه بين لغة للنثر ولغة للشعر. الشعر، هو لغة قائمة بذاتها وبوجودها، وهي هوية لغوية منصرفة عن كل التعبيرات، بلغةٍ يبتدعها العمل، وتكون هي لغة هذا العمل، يصعب فيها أن نسمي جملة أو مفردة أو عبارة أو تركيباً أو صورة أنها نثرية، وغيرها شعرية، ما المعيار أو «العِيار» بتعبير ابن طباطبا العلوي، أو الأورغانون الذي به نميز في النص الواحد، الشِّعري من النثري.!؟ الشعر، أو العمل الشِّعري بالأحرى، هو كتابة منفتحة على كل الفنون والمعارف واللغات والثقافات، وعلى كل الأجناس والأنواع، بالمعنى الأرسطي، فقط، علينا أن نعرف كيف لا نخرج بالعمل عن سياقه الشِّعري، من حيث البناء، لأن جوهر الشِّعر اليوم، هو البناء.
ما تُسمِّيه بالبرفورمانس أو التعبير الجسدي، إذا شئت، ليس بأمر طاريء على الشعر، الشِّعر عند الإغريق بدأ هكذا، بدأ بالتعبيرات والملامح والإشارات الجسدية، وكتاب الشعر لأرسطو، كان هذا سياقه الجوهري، رغم أن أرسطو كانت عينه على الشعر.
شخصياً أميل إلى الكتابة، والبرفومانس، في الكتابة، هو الصفحة ذاتها، هي التوزيعات الخطية للنص، ما فيه من رموز وأشكال هندسية ورسومات، ما فيه من فراغ، ومن حضور للجسد وملامح الوجه وحركات اليد في اللغة نفسها، من خلال ما لا ننتبه إليه من ملامح، ومن روائح، ومن رقص، وتوتر، ومن قلق وتشنُّج، أو دهشة وفرح، الجسد حاضر في الشعر، باعتباره لغة أخرى غير لغة المسرح، رغم وجود الحوار في العمل الشعري، لأن الحوار طبيعة في العلاقات البشرية، وهو تبادُل وتقاسم.
علينا أن نحقق كل هذه الشروط في الشعر نفسه، في ما نكتبه، لا بتعويض ضعف وهشاشة الشعر بغيرها من التعبيرات، مثل الإنشاد والرقص، أو الرسم والتصوير، هذه عناصر موجودة في الشِّعْر، إذا ما قرأناه بحواسنا في تداعياتها، وما فيها من تصادٍ وتنادٍ، ومن قدرة على التجاوب. وأنا هنا أفكر في بودلير، في تجاوب الحواس.
أما الفلسفة، فهي سَمِيَّةُ الشِّعر، والشاعر غير المنفتح على الفلسفة، لا يمكن لأفقه الشِّعري أن يكون رحيباً، ولا يستطيع، نظرياً، أن يُبَرِّر شيئاً في ما يكتبه ويقوله.
أما الرقص، في جوهره، فهو تعبير عن تحرُّر الجسد من اليومي، من السُّحُب التي نُغَلِّفُه بها من أثواب وألبسة. الرقص استعادة الجسد لبداياته، لعرائه الأول. والجسد بها المعنى، هو لغة، بتعبيرات الجسد ذاته، مثل الشِّعر الذي هو تعبير بلغة الشِّعر ذاته. وهذا ما شدَّنِي إلى الرَّقص الكوريغرافي، الذي أتاح لي تعبيراً لا يكون باللغة، بل بالصمت الراقص. وقد وظفت هذا في عدد من الأعمال الشعرية، لكن النقد، ما زال لم يخرج من دروس المدرسة والجامعة، ليوسع آفاق رؤيته ومعارفه، خصوصاً في الانتباه إلى مثل هذه الأشياء في الشِّعر، ما زالت اللغة فقط، هي ما يذهب إليه النقد، وهذا عطب في الثقافة العربية، وفي الحداثة التي عليها أن تراجعه، حتَّى لا تتحوَّل إلى استعادة وتقليد.