أمية المتعلمين
فيما مضى، كانت الأمية تعني شيئا واحدا: الجهل بالقراءة والكتابة، ومع الوقت تعددت الأميات إلى جوار تلك الأمية الأصلية (الهجائية): الأمية الثقافية، والعقائدية، والحضارية، والعلمية، والأيديولوجية، والفنية، والجمالية، والصحية، والوظيفية، والمهنية، والبيئية، والمعلوماتية، والتكنولوجية.
إذا كانت الدولة حريصة على محو أمية مواطنيها فإنه الحرص على محو الأمية الهجائية (الأبجدية) وحدها؛ فليس في وسع دولة من الدول، أيا كانت، أن تمحو أنواع الأمية بأسرها من مواطنيها.. وعلى هذا فبتعدد الأميات برز لدينا أنموذج المتعلم الأمي؛ والمعنى أنه الشخص الذي يقرأ ويكتب، وقد يكون حاصلا على شهادة ما (قد تكون عليا) غير أنه واقع في شرك عدد من الأميات الأخرى، أو في شركها جميعا، ولا يبالي بمنتهى الأسف..
المصيبة الأكبر أنه قد يكون تجاوز الأمية الهجائية نسبيا لا مطلقا، يقرأ ويكتب، لكنه دون الدرجة الجيدة في القراءة والكتابة، وكثيرا ما نلاحظ أن دفعات متلاحقة من خريجي كليات اللغة العربية نفسها هكذا؛ فأخطاؤهم في الإملاء فادحة وفاضحة وعيوبهم في القراءة جسيمة ومُلِيمَة!
في نظام التعليم ببلادنا خطأ بلا ريب.. خطأ رهيب، لم يتم الالتفات إليه بجدية على طول السنين. من ذلك أنه تعليم تلقيني، يلقونه على المتعلم، بتكرار ممل، ليعيده في يوم الامتحان، ويشترطون الحفظ فوق ما يهتمون بالفهم، ومن ذلك أن المناهج منفصلة وليست متصلة، ومتضخمة بلا معنى، ومنه أن الأدوات الحداثية، كالكمبيوتر وما إليه، لا تدخل الدائرة التعليمية باليسر والحتمية الزمنية وإنما بالعسر وادعاء مواكبة العصر، ومنه طغيان الحصص الدراسية على حصص التذوق اللغوي والإلقاء الشعري والموسيقى والألعاب والأنشطة الترفيهية، ومنه أن صنوفا من المعلمين أنفسهم لا يكونون متأهلين تأهيلا حقيقيا لتعليم الصغار والناشئة على وجه الخصوص؛ فأدواتهم الأساسية ناقصة وعقولهم قاصرة وأخيلتهم عاجزة، فضلا عن موت الضمائر في كثير من الحالات المتصدية للعملية التعليمية..
فيما يخص البيوت، فإن الآباء والأمهات كثيرا ما يعاندون رغبات أبنائهم؛ فمن
يريد دراسة الفنون قد يوجهونه إلى الهندسة، ومن يروم الطب قد يدفعونه إلى الإعلام، وما إلى ذلك..
لا ينتبه أحد أيضا من القريبين للدارس، ولا المحيطين به، في أثناء تعليمه الأساسي بالذات، لطبيعته النفسية، وخصاله، وميوله، ومواهبه، وقيمه.. ويبدأ في تهيئته من وقتها إلى ما يناسبه، بالمحاورة والإقناع لا التسلط والجبر..
ويغفل أولياء الأمور عن أهمية التعليم للتعليم قبل الحصول على الوظيفة بواسطته.. ويغفلون عن معنى الفخر بالأبناء مهما تكن دراستهم، ولو كانت متوسطة، ما دامت هي الأليق بهم، وما داموا يرغبون فيها، وما دام المجتمع يعوزها.
الموضوع كبير ومتشعب، لكننا نستهين به ونحسه صغيرا مقلَّم الأشجار، كاستهانتنا بموضوعات أخرى لا تقل أهمية.. والخلاصة أننا نقاسي أمية منوعة مهلكة بلا جدال، ويتوجب علينا أن نحاصرها ونهزمها.