طبول الحرب تقرع فى بحر العرب
قد يكون الموعد مع حرب «محدودة»، أو يمكن تفهم أن تخرج كعملية خاطفة، لكن لا بد أن تكون مؤثرة ومدوية، كى تحقق للأطراف أهدافهم من الذهاب إليها، وهذا ما يبدو صعب تصوره بالنظر إلى صعوبة السيطرة على ارتدادات تلك العملية، التى تنتظرها مياه بحر العرب المتاخمة لمضيق هرمز بشمال المحيط الهندى.
إرهاصات ومشاهد التحضير لهذا الحدث جرت فى هذا الموقع الجغرافى، حيث بدأت مع عملية الهجوم الذى تعرضت له الناقلة «إم/ تى ميرسر ستريت» المشغلة من شركة «زودياك ماريتايم» المملوكة للملياردير الإسرائيلى إيال عوفر. الهجوم اتُهمت به إيران بعد ساعات من سقوط قتيلين على متن الناقلة أحدهما يحمل الجنسية البريطانية وآخر رومانى، وفى حينه تَقدمت سريعًا إحدى قطع البحرية العسكرية الأمريكية، بتقديم العون للناقلة المصابة بالمسيرة «ذات الاتجاه الواحد» وهو التوصيف الذى يطلق على طرازات الطائرة دون طيار التى تحمل عبوة ناسفة شديدة الانفجار، وتهاجم هدفًا بغرض تدميره أو إحداث أكبر قدر من الأضرار فيه بنظام «التفخيخ» الذى ينسف جسم المسيرة بالكامل فى غضون عملية الارتطام بالهدف.
الجيش الأمريكى الذى كانت قواته البحرية هى أول من وصلت إلى موقع الحادث، استجابة لنداء استغاثة صادر عن الناقلة، تحدث عن أدلة أولية أكدت وقوع الهجوم بطائرة مُسيرة، وإن تحفظ فى الإدلاء بأى تفاصيل إضافية تاركًا الأمر لوزارة الخارجية، وهى من جاء على لسان وزير خارجيتها أنتونى بلينكن لاحقًا، مساحة تأكيد تكررت فى أكثر من موضع، أن اليقين متوافر لدى الإدارة الأمريكية بضلوع إيران فى هذا الهجوم وربط المسئولية عنه فى رقبتها.
وفى يقين وتأكيد من نوع مختلف كان لدى شركة «درياد جلوبال» المتخصصة فى المراقبة والأمن البحرى، ما تعتبره أحد مساجلات الأعمال الانتقامية المتبادلة فى الصراع الذى يجرى ما بين إيران وإسرائيل.
فقد سبق لإسرائيل أن اتهمت إيران وأذرعها، بالوقوف وراء اعتداءات طالت سفنًا مرتبطة بها خلال الأشهر الماضية، خصوصًا فى منطقة خليج عمان وبحر العرب. فى المقابل، كانت هناك سوابق عدة اتهمت إيران فيها إسرائيل بالوقوف خلف عمليات عسكرية طالت مصالحها وقواتها فى عديد من ساحات المنطقة، أقربها لوقائع هذا الفصل من التصعيد، الهجوم التخريبى الذى تعرضت له سفينة الشحن «إيران شهركرد» فى مارس الماضى بالبحر المتوسط، مشيرة حينها إلى أن «كل المعطيات» تدفع إلى الاعتقاد بوقوف تل أبيب خلف العملية.
لذلك يبدو مشهد اللحظة الراهنة متجاوزًا لليقين المتبادل ما بين أطراف صراع قائم بالفعل، وانخراط إيران وإسرائيل فيه حاضرًا منذ سنوات، والاضطلاع والتورط مثبت على كل منهما، مما جعل الكل لا يقفون كثيرًا عند النفى الإيرانى فيما يخص الهجوم على «ميرسر ستريت» الأخير. ويصير الأهم هو النظر فى دلالات عملية الاحتشاد اللافت الذى تقوم به إسرائيل هذه المرة مع الولايات المتحدة وبريطانيا، على اعتبار أن تقديم إيران هذه المرة بكونها تجاوزت الخط الأحمر فى استهداف حرية و«أمان» الملاحة البحرية الدولية، باستخدام سلاح نوعى تمكن من إحداث إصابات وخسائر غير مسبوقة ومرشح بالطبع للاستخدام مستقبلًا.
فالوقائع البحرية السابقة ظلت محكومة بضوابط من الطرفين، حتى وإن لم تخل من رسائل فى حينها لكنها بقيت ذات خسائر محدودة، لذا ينظر هذه المرة باعتبار درجة الخشونة وسقوط الضحايا تحت نور الشمس معبرًا عن نهج جديد؛ لإدارة إيرانية جديدة فى مواجهة نظيرتها الإسرائيلية التى تحمل ذات التوصيف. خاصة مع التململ الإيرانى الذى برز خلال العام الماضى بشكل كبير حول قدرات إسرائيل، التى تمكنها من الاختراق وتنفيذ عمليات فى سوريا وفى داخل إيران ضد المنشآت النووية والعاملين فيها، ومؤخرًا ضد مصالح بحرية ترى طهران من جانبها أن نهجًا جديدًا فى العمل المتبادل، حان الوقت لاعتماده، عبر «التكشير» عن أظافر إدارة جديدة معنية بالتعاطى مع الإخفاقات المتتالية فى التعامل مع التهديدات. لذلك جاء التسريب الإيرانى الأول بعد العملية الأخيرة، خلال الساعات الأولى عبر وسيلة إعلام شبه رسمية «قناة العالم» الإخبارية، حيث بدا مقصودًا أن تذكر بأن هذا العمل بمثابة «رد» على الهجوم الإسرائيلى على مطار «الضبعة» فى سوريا، والذى كان يستهدف قوات إيران بالأساس وتضررت منه كثيرًا بالفعل.
بعد خمسة أيام فقط من حادث «ميرسر ستريت»؛ وفى ذات الدائرة من مسرح العمليات تناقلت وكالات الأنباء خبرًا عن خدمات وكالة «لويدز ليست انتلجنس»، التى تقدم معلومات على مدار الساعة خاصة بقطاع النقل البحرى، أن مسلحين اختطفوا سفينة ترفع علم «بنما» فى خليج عمان واقتادوها نحو إيران. جرى هذا الأمر مساء الثلاثاء وطوال ساعات الليل حيث أكدت الواقعة عددًا من التقارير السريعة، التى خرجت بتحفظ تنقل عن رصد إلكترونى فى الغالب أن ما يربو على تسعة رجال مسلحين صعدوا على متن السفينة «أسفلت برنسيس» لدى اقترابها من مدخل مضيق هرمز، وتحديدًا فى النطاق البحرى لإمارة الفجيرة، واعتبر الهجوم «عملية خطف محتملة» وفق ما تداولته التقارير قبل أن يعلن رسميًا، دون تفاصيل ظُهر الأربعاء أن هناك إفراجًا عنها قد تم وانتهت العملية.
ورغم ما شاب هذه الواقعة من غموض حتى الآن على الأقل فيما يخص تبعية هؤلاء المسلحين لأى جهة، ومن الذى تدخل سريعًا وبحسم لإنهاء العملية على هذا النحو، إلا أن هناك تزامنًا لما هو أخطر وما زال قيد البحث ولم تتكشف تفاصيله بعد، حول «فقدان السيطرة» فى أربع ناقلات نفط على مسافة قريبة من عملية الاختطاف السالفة، حيث كانت تلك الناقلات فى المياه الإقليمية لسلطنة عمان وشوهدت بالفعل طائرة حراسة بحرية تابعة لسلاح الجو العمانى تحلق فوق البحر، وهى بيانات خرجت على موقع «فلايت رادار ٢٤» فى الوقت نفسه الذى أعلن فيه عن وقوع الحادث.
اللافت أن الخارجية الإيرانية كانت أسرع وأكثر اهتمامًا بالرد على واقعة «فقدان السيطرة» لناقلات النفط، ووصفته بالجهود الرامية إلى خلق أجواء كاذبة ضد إيران.
وفى الوقت الذى تعكف فيه أجهزة تحقيق دولية، على فحص هذه الواقعة الأخطر من وجهة نظرها المبدئية من واقعة اختطاف سفينة، فى حال ثبت أن هناك هجومًا إلكترونيًا تعرضت له الناقلات فى وقت واحد، وبمنطقة تزامن تواجدهم فيها معًا مما جعلهم يصابون بنفس العرض الغامض الذى زال بعد فترة وجيزة- لم تسمح باختبار هذه الأعراض التى فى معظمها انصبت على الأجهزة والبيانات الملاحية لها، مما رجح فرضية الهجوم السيبرانى الذى فى حال تأكد وقوعه ينقل الصراع إلى مستوى أبعد وأخطر.
هذه وقائع استغرقت أقل من أسبوع، فى عمر المنطقة التى تبدو مياهها تغلى بالكثير مما هو تحت السطح الأكثر اضطرابًا من أى بقعة أخرى، والحاضر بقوة هو النقل البحرى ومسارات الملاحة الدولية وتأمين الممرات.
عناوين تتطاير بقوة وتتدافع من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، فيما يشبه صناعة لشبكة عملاقة مخصصة لاصطياد إيران فى هذا التوقيت لحد أن هناك من يؤكد أن اندلاع الحريق لن يتجاوز عطلة نهاية هذا الأسبوع، والذى تفصلنا عنها ساعات لا أكثر!.