محسن يونس: روايتي «منطق الزهر» تُقارب بعين ساخرة سلوكيات خاطئة
الكثير من الأعمال الأدبية تنهل من التراث عبر طرق شتى، هناك من يستدعيه ليحاججه ويُبيّن بعض أوجه عوراته، وهناك من يوظفه لتعزيز الفكرة التي يتعرض لها في عمله، كما أن ثمة من يتكئ عليه ليُقاربه مع الواقع وقضاياه الإشكاليّة. الروائي والقاص المصري محسن يونس أحد هؤلاء الذين اتكأت أعمالهم على التراث بمختلف تفريعاته في توظيفات فنيّة ذكيّة ومغايرة.
في أحدث رواياته "منطق الزهر" يسرد لنا الراوي العليم قِصة أسرة تراودها أحلام الثراء السريع بأية وسيلة غير العمل الجاد والمتواصل، وبحس ساخر يمزج الروائي محسن يونس ما بين متن واقعي وهامش فكاهي، وينخرط في التراث وحكاياته انطلاقًا من حياة أسرة تسير على هُدى ما قاله التنوخي في كتابه "الفرج بعد الشِدّة" ليعود ناقدًا بعض مظاهر الواقع وإشكالياته.
مقاربة ساخرة لسلوكيات سلبية
بدءًا من عنوان الرواية يُمكن ملاحظة ذلك التناص مع كتاب "منطق الطير" بما يبدو وكأنه تأسيس لمفارقة ما؛ منطق الطير الذي يخوض رحلة صوفية شاقة للوصول إلى الجبل، تعبيرا عن الرقي الروحي، في مقابل منطق الزهر المُرتكز على مطامع جني الثراء دون جهد.
يُبين محسن يونس، في حواره مع "الدستور"، أن كتاب "منطق الطير" رحلة شاقة للوصول إلى الجبل، في مجاز يعبر عن الرقي الروحي في ذلك الصعود، فالكتاب عمل ذاتي شخصي يعبّر في الجوهر عن فكره الصوفي الحلولي، ويتميز بأسلوب مشوّق وعميق، بينما روايته "منطق الزهر" هي تأصيل ومقاربة لطبيعة وسلوك سلبي على مدار المتن، يمكننا أن نشاهد تجلياته بعين ساخرة، مع صوت بعيد ربما يطلب منا مراجعة أنفسنا، والكثير من سلوكنا المتواكل، والسلبي الذي ينتج أفكارًا معظمها من نوع أحلام اليقظة".
ويتابع: المنطق يعني هنا وجود الأسباب باختلاقها غصبًا للمرور من لا معقولية وعبث السلوك، إنه ميكانزم دفاعي تلقائي في العادة، هو السعي نحو تحقيق شيء ما دون امتلاك أسباب هذا التحقق، حينما يكون داخل لعبة تعتمد على المجاز، ونسميها الفن، وهو في أغلبه أيضا يقوم على المفارقة في جزء كبير من متنه.
هامش الرواية يُعارض متنها
في رواية "منطق الزهر" اعتمد الكاتب أسلوب "المتن والهامش" في كتابة الرواية بشكل بدا وكأن الهامش في الرواية يُعارِض المتن ويحاججه أو يسخر منه، وعن ذلك الخيار الفني في كتابة الرواية يقول: "لا أعرف إلا أن هذا هو دور الكاتب؛ أن يكون ذكيا في اختيار الشكل الذي يحمل أفكاره، على ألا يكون شكلانيا، أي يُقدِّس الشكل على حساب المحتوى".
ويضيف يونس: الهوامش موجودة في كل ما تركه التراث من كتابات تقريبا، وفي العادة يكون الهامش في الظل له دور واحد لا يتعداه هو بيان الغامض في المتن شرحًا وتفسيرًا، ولكنه في الكتابة الإبداعية موجود لإيضاح شيء غامض في المتن، وهذه وظيفته التقليدية، إلى جانب المعارضة والمحاججة وإثبات روح السخرية التي كنت أسعى إليها، ولا مناص من الكوميديا أو السخرية المضحكة والهازئة في التنقل بين المتن والهامش بما يُظهِر التناقض الصارخ، وهذا من وجهة نظري للخروج بالنص ككل من الرتابة والواقعية الصرف إلى المجاز وفتح باب التأويل لدى القارىء.
الفن يبني موقفه من التراث
تحضُر تجليات من التراث في أعمال يونس القصصية والروائية بتنويعات متعددة، وفي هذا الصدد يقول الكاتب: "التراث كامن فينا، وهذا لا ينفي معاصرتنا لحاضرنا، وتبني روح زمننا العلمي النقدي. هناك كتابات كثيرة تحاول استجلاء هذا الطرح المتمثل في علاقة التراث بالأدب كإبداع قصصي أو روائي، واستخدمت تعريفات لا أراها إلا إهانة للتراث والإبداع في نفس الوقت كاستغلال أو استخدام أو توظيف التراث، وهي جميعا تنظر إلى التراث نظرة استعلائية نفعية".
ويضيف: «على جانب آخر هناك أصوات تقول بالقطيعة مع التراث بشكل كامل إذا أردنا التقدم، هنا تكمُن مشكلة عدم الالتفات إلى ما ناضلت المجتمعات الإنسانية على مر عصورها من إرساء قيم العلم والنقد، الذي معهما يمكننا التعامل مع كل المعطيات والظواهر بشكل موضوعي، دون أخذ الموقف الحدي. الكتابة تعني السعي نحو المعرفة، كما أنها تميل نحو الاختيار لا الجبر، والفن والأدب "حفري" المزاج، في كشفه عن طبقات الزمن المتراكمة».
ويوضح: من ناحيتي، لا أجد خجلا في أن أقول أني ربيب واقع ممتد الجذور في ماض طويل، أنتج ناسه عبر هذا الماضي واليوم وغدا تراثًا، معجونًا بالحياة، فيه من خواص شخصياتهم التي ورثت جيناتها، يأتيني التراث بأريحية، وأنا أتعامل معه بأريحية أيضا، ربما أسخر إذا لزم الأمر واستدعي السخرية، وربما أكون جادا في موقع الجدة منه. الجانب الخرافي والرجعي في التراث ليس مخبئا في قماقم، أو مرصودا بسحر أسود، بحيث لا يمكننا وضع اليد عليه، وبيان خطورته؛ هذا واجب يمس شرف الكتابة.
أما عن كيفية تعامله الخاص كروائي مع التراث، يلفت «يونس» إلى أنه لا يتوقف عند الحكاية التراثية بحد ذاتها، ليعيد كتابتها بطريقة عصرية، فالحكاية التراثية حدثت في ماض له معطياته التي تختلف عن معطيات زمننا، ولكنها تظل على أهميتها بالنسبة له، فهي كالنفير الذي يوقظ رغبته في الكتابة.
ويشير: "أنا أثق في خيالي، وتوارد أفكاري لأُنتِج في النهاية نصا له خصوصيته، فلا هو منقول من التراث كما هو، أو اللعب فيه ببعض التدخلات إما بالحذف أو الزيادة، إنه ذلك السحر الذي يجعلك تضعين "منطق الزهر" في مقابل "منطق الطير" والحقيقة أن لا علاقة بينهما إلا كلمة في عنوان كل منهما، كان ضروريا لعملي، لتتزن به عتبة النص".
وردًا على سؤالنا له "إلى أي مدى تقصد تقديم مقاربة نقدية لبعض أوجه التراث من خلال أعمالك عبر الحس الساخر تحديدًا؟، يقول يونس: إلى الحد الذي يجعلني كاشفا للزيف، في شتى مجالات الحياة، وهذا بشكل عام، أما في الكتابة القصصية والروائية، فليس مطلوبا أن يكون العمل الإبداعي دعائيا لموقف فكري مسبق من التراث، والمسألة في الكتابة هي مسألة اختيار، وليست مناطحة مع القديم، أو الامتثال لوهجه، فما كان كان، ولا يمكن تعديل ما عاشت أجيالنا السابقة عليه، هذه هي الرؤية النقدية التي أرى من خلالها الأشياء من حولي، ولا ينفي هذا الاعتراف بأننا أحفاد تلك المخيلة التي أنتجت ألف ليلة وليلة، والحكايات الغريبة في البلاد العجيبة، وغيرها الكثير، لماذا نحاول التبرؤ منها؟.
ويضيف: أمام الكاتب حرية في النقد وليس الرفض، أو تغيير ما لا يتغير، ولكنك وضعت إشارة مهمة جدا، في كشفك العلاقة بيني وبين التراث في تجلي الحس الساخر، بخلاف من يمارسون تقديسًا أو إعادة الموروث على أرض الواقع الآني، إنهم بالفعل يستحقون السخرية، فقطار الزمن سوف يدهسهم حتما، علينا أن نتجاوز قاموس اللعنات هذا، لنصل إلى ما هو فاعل وأجدى، إن الناظر إلى كتاباتنا العربية خاصة في القصة أو الرواية، سيجد فقرًا في الكتابة الساخرة، وكم تمنيت أن أقدم أعمالا في هذا الاتجاه.
إذن نحن هنا نخطو من السخرية إلى الضحك، فأنا مع كل شيء إيجابي، والضحك أراه فعلا إيجابيا بعكس السخرية التي أراها فعلا خطرا يميل أكثر نحو السلبي بشكل ما، وقد كان تأمل التراث جنبا إلى جنب مع الواقع الذي أعيشه مدخلا ناجحا في نقد واقعي وليس التراث،الذي يمكنني تجاوز عوراته ومزالقه، ولا يمكنني التجاوز عن عورات واقعي،أي أنني لا أطرح تنظيرا عن السخرية في رواياتي، ولكني أسعى من خلال الكتابة الساخرة أو الضاحكة إلى ترسيخ معنى حيوي للقراءة الإيجابية، وليست القراءة للتسلية وإزجاء وقت الفراغ.
رهان الاختلاف
رغم حضور التراث والفلكلور في أعمال الكاتب بدرجة أو بأخرى فإنه يحرص على أن يكون لكل عمل طرحه الخاص وشكله الجديد، ففي كل عمل جديد يميل إلى أن يأتي مختلفًا ربما كليا عن سابقه شكلا ومحتوى، إذ يأتي الشكل الذي يرى أنه يستطيع حمل ما يفكر فيه، وما يريد مشاركته مع القارئ.
يوضح الكاتب ذلك بقوله: "أوجه الاختلاف بين أعمالي كثيرة ومتنوعة؛ في رواية "بيت الخلفة " مثلا، أعتمد على تحول الشكل الشعري إلى شكل سردي، فشعبيا معروف شكل العديد، وهو المراثي الشعبية التي يبوح بها القريب المكلوم ممسكا بمآثر المتوفى، والإمكانية الموجودة في هذا الشكل وظّفتها في السرد؛ فكان أفق الرواية يميل على ما حدث لبلادنا في عقد السبعينيات من تحول نحو الانفتاح ليصبح مجتمعا استهلاكيا، متراجعا عن منظومة قيم ليطرح منظومته التي يمكننا تلمس خطورتها على كل الأصعدة التربوية والوطنية".
ويضيف: مثلا "الشطح" المعروف لدينا عن الصوفي في تجلياته التي أحيانا تصطدم بمنطق الإنسان العادي، مع ما فيها من مجاز يسمو بالنفس، رمى هذا الشكل بظلاله على رواية "حرامي الحلة"، وقد ذُيل عنوانها على الغلاف الأمامي بعبارة "شطحة روائية لوقائع إقامة جبرية. كذلك في رواية "خرائط التماسيح" وهي قائمة على المقام الذي هو جزء أصيل في ثقافتنا، مثل مقام الجدة ومقام العبث ومقام الحكمة.. وهكذا، ذلك صبغة للكلام بصبغة المضاف إلى المقام، كان شكلا من جدل طويل عبر سنين عمرنا مع تراثنا المكتوب والمسموع، الرسمي والشعبي.
سؤال الكتابة
بعد عقود من الكتابة في مجالات القصة والرواية وأدب الطفل.. ما الذي باتت تمثله الكتابة لك؟ يجيب يونس بقوله: إنه سؤال الوجود؛ وجودي ككاتب حاول وربما نجح بعض النجاح على مستوى الوجود بين زمرة الكتاب من ناحية، ومن ناحية أخرى الرضا عن نفسي بعد عقود بوصفك، لن أضع سؤالا حيويا ومهما الآن أمامي: لماذا نكتب؟ فقد مضى زمن طرحه على نفسي، وإن يظل أحد تجلياته مطروحا متجددا لا يصيبه القدم ولا البوار، هو جدية ما أكتب، ومدى انتفاع مجتمعي به، وهل يتبناه القراء والنقاد، أم هو خارج خارطة الكتابة؟
أستمتع بالكتابة والقراءة الآن، العمليتان مرتبطتان ولا فكاك بينهما،أستمتع بأنني أحوز احترام زملائي الكتاب، أو على الأقل جانب لا بأس به منهم، صحيح أنني لا أميل إلى التجمعات ولا أنتمي إلى شلة، ولكني في نفس الوقت أحافظ على حُسن علاقتي مع الجميع. الكتابة لم تنقلني من وضعي الاجتماعي أو المالي إلى وضع أعلى، وطبقة أعلى، ولكنها تُميزني بالقيمة؛ قيمة أن أكون كاتبا، فليس كل الناس كُتّابًا.
وفيما يتعلق بخصوصية أعماله، يلفت يونس إلى أن مسألة العمل من خلال مشروع كان شاغله منذ البداية؛ لغة خاصة، طريقة كتابة ربما يستطيع القارىء المُتعامل مع الكتابة والقراءة أن يكتشف أن هذا الذي يقرأه هو له، فيما لو لم يكتب اسمه، وكذلك الميل ميلًا منحازًا نحو كل ما هو شعبي، في جميع تجلياته من غنوة أو موال أو أدوار أو قص أو نكتة أو أحجية أو مثل، وأيضا الاهتمام بالتراث عامة، الذي يظهر تلقائيا في أعماله دون السعي بعمدية نحوه، كل ذلك يأتي في قصدية حينما يكون عمله وموقفه مع الإنسان في كل زمان ومكان، وضد أعدائه.