الثورة الاجتماعية
لفت نظرى هجوم الإخوان على النائبة فريدة الشوباشى.. فريدة انتقدت العائلات فى تجهيز بناتها للزواج.. هذا الإسراف ينتج عنه تورط الأمهات فى الاستدانة.. وعجزهن عن السداد.. الظاهرة نتجت عنها ظاهرة دائمة هى ظاهرة الغارمات.. عندما تولى الرئيس السيسى أصدر أمرًا لصندوق «تحيا مصر» بسداد ديون الغارمات.. لكن الظاهرة لم تنته.. كلما تم سداد ديون الغارمات ظهرت غارمات جدد.. وهكذا دواليك.. هذا التجدد يحتمل تفسيرين.. أولهما أننا لم نأخذ على عاتقنا توعية الناس بخطورة الإسراف فى المظاهر الفارغة، وبأهمية التقشف، بل والادخار إن أمكن، والثانى تفسير سيئ النية، وهو أن هناك مافيا للغارمات تستغل رغبة أهل الخير فى إعانة الغارمات.. والتفاصيل يمكن تخيلها.
هجوم «الإخوان» على الدعوة للاستغناء عن المظاهر، لا يكشف فقط عن رغبتها فى تشويه كل معنى جاد، ولا عن رغبة رخيصة فى المكايدة، هو يكشف أيضًا عن خوف من محاولة تغيير سلوك الناس للأفضل.. هذا المعنى له مسميات متعددة.. اجتهدت أنا وأسميته «الإصلاح الاجتماعى»، وكتبت عنه منذ عام ٢٠٠٩ فى مجلة «روزاليوسف»، عاودتنى الفكرة بعد نجاح ثورة ٣٠ يونيو وأعدت طرحها.. وها أنا أطرحها مرة ثالثة، ولكنى أسميها هذه المرة «الثورة الاجتماعية».. الفكرة أن الدولة فى سعيها للنهضة لا يجب أن تقتصر على حركة البناء والتشييد فقط، ولا على التصنيع، وجذب الاستثمارات، وخدمات الصحة والإسكان والتعليم فقط، كل هذا رائع، ويغير الواقع.. لكن مفاهيم الناس نفسها يجب أن تتغير.. مفاهيم مثل الموقف من العمل، النظام، العادات الاستهلاكية، موقفنا من الآخر، هل نحن خصوم للآخر أم منافسون له؟ فهمنا الدين والتدين.. هذه المفاهيم كلها يمكن اختصارها فى كلمة «الوعى»، وفى الحقيقة إننا، حتى الآن، لم نخض معركة الوعى بالدرجة المطلوبة.. معركة الوعى معركة أساسية، وبدونها لا يمكن أن نكسب المعركة، ودون الدخول فى تفاصيل، ليس هذا محلها، فإن الصين لم يكن بإمكانها تحقيق نهضتها دون معركة تغيير المفاهيم التى أطلقتها. وقد شملت خطوات كثيرة، منها تغيير عادات الناس فى تعاطى مخدر الأفيون الذى كان شديد الانتشار.. لإلزام الناس وإقناعهم أيضًا بتحديد صارم للنسل، لتغيير مفاهيم أساسية فى الثقافة الصينية التقليدية كانت تعوق الانخراط فى العمل والتفانى فيه، نحن نحتاج لمثل هذه «الثورة الاجتماعية» أو «ثورة الوعى»، ولدينا فرصة عظيمة فى مشروع حياة كريمة.. الذى لا يمكن أن يقتصر على بناء المساكن والمدارس والمستشفيات فقط، ولا حتى على تأسيس الصناعات الريفية والمشروعات الصغيرة فقط، لا بد من «حياة ثقافية كريمة» أيضًا، لا بد من تغيير وعى الناس، ولا شك أن الثقافة والفنون إحدى أدوات معركة الوعى.. فى حفل إطلاق مبادرة حياة كريمة كان هناك حرص على ذكر مشاركة وزارة الثقافة، لكن البند الوحيد الذى تم الحديث عنه كان «كشك الكتب»، وهو فكرة رائعة بكل تأكيد، ولكن الثقافة المصرية تملك الكثير جدًا لتقدمه لـ٥٥ مليون مصرى يعيشون فى الأرياف، وليس مجرد مراكز توزيع الكتب فقط، إننا نحتاج لـ«رائد ثقافى» لكل قرية، على غرار ريادة الفنانة السويسرية إيفلين بواريه لقرية تونس فى الفيوم.. ونجاحها فى تحويل أهلها لعمال مهرة فى صناعة الخزف.. لدينا آلاف القرى التى يمكن أن تتميز فى فنون وصناعات معينة لو وجدوا من يرشدهم ويعلمهم.. لدينا تجارب للمسرح الريفى قام بها مثقفون مصريون، مثل مسرح الجرن «مكان تجميع الغلة».. ومسرح الشارع.. الذى تخرجت منه فنانة مثل عبلة كامل.. لدينا تجربة فرقة الورشة المسرحية فى الصعيد.. وعشرات التجارب الأخرى.. حتى إن بطلة الفيلم المصرى الفائز فى مهرجان كان «ريش» عضوة فى فرقة تمثيلية فى قرية بالمنيا.. لدينا تجربة قصور الثقافة الملهمة التى تكاثر عليها البيروقراطية والروتين والتطرف والجمود والفساد وتحتاج من يعيد إحياءها من جديد.. يمكن أن يكون مشروع حياة كريمة مناسبة لاستعادة مئات المثقفين المصريين، الذين استسلم بعضهم للعدم واليأس والانسحاب. الذى لجأ إليه بعضهم لأسباب مختلفة ومتعددة.. أيًا كانت التفاصيل فلا بديل عن خوض معركة الوعى، والثقافة أهم أسلحة هذه المعركة.