يوليو ويونيو
نحتفل اليوم بالذكرى التاسعة والستين لثورة ٢٣ يوليو المجيدة، والسؤال الذى يشغل الكثيرين هو: هل ثمة تشابه بين الثورتين؟ السؤال تتعدد إجاباته بقدر اجتهادات المجتهدين ومواقفهم الفكرية، وفهمهم للتاريخ المصرى وأنا واحد من هؤلاء المجتهدين، أجتهد فأقول إن التاريخ المصرى الحديث شهد ثلاث ثورات كبرى منذ ١٨٨١، أولاها الثورة العرابية والتى قام بها مجموعة من الضباط الوطنيين، ورغم نبل المقصد فإن عوامل فشل الثورة الذاتية كانت أكثر من عوامل نجاحها، ورغم نبل المقصد فلم يتبق منها سوى قصص الشجاعة الفردية لمحمد عبيد ورفاقه الذين استشهدوا أمام مدافع الإنجليز فى كفر الدوار.
وكانت الثورة الثانية الكبيرة هى ثورة ١٩١٩، وقد نجحت نجاحًا جزئيًا، وبعثت الروح المصرية فى الفن والثقافة والاقتصاد، ولكنها فى الحساب النهائى لم تقُد مصر لا إلى النهضة ولا إلى الاستقلال.. رغم كفاءة فى الإدارة الحكومية بتأثير الاستعانة بالكفاءات الأجنبية والمستشارين الإنجليز «هذا هو الواقع حتى ولو أغضبك».
أما الثورة الثالثة وموضوع هذا المقال فهى ثورة ٢٣ يوليو، وهى تتشابه مع ٣٠ يونيو فى أن كلتيهما ثورة لعب فيها الجيش المصرى دور البطولة، معبرًا عن آمال الشعب، وكلتاهما قامت عقب فشل كبير فى المشهد السياسى يمكن التعبير عنه بلغة لاعبى «الدومينو» بأن الدور «ضَمِّن»، وهو ما يعنى أن كل اللاعبين لم يعد لديهم أى قدرة على الإتيان بلعبة جديدة، وهنا يكون الحل فى هدم الدور، والبداية من جديد أو على نظافة.
تتشابه يوليو ويونيو أيضًا فى أن كلتيهما أدركت خطر جماعة الإخوان المسلمين وطبيعتها الإجرامية، وأن كلتا الثورتين تصدت لإرهاب الجماعة بالحسم والقوة وبشرعية الإنجاز أيضًا، وكانت النتيجة أن كلتيهما عرضة لهجوم لا ينتهى من الجماعة وأذنابها، وأن قائديهما تعرضا لمحاولات شيطنة لا حد لها من إعلام الجماعة وأذنابها ومواليها فى الداخل والخارج.
ورغم أن التاريخ لا يعود للوراء فإن لكلتا الثورتين موقفًا من الفساد المرتبط بالمال، وفى ثورة يوليو أدرك جمال عبدالناصر أن عليه أن يفكك الطبقة التى تكونت ثروتها الأساسية من الأبعاديات والأراضى التى كانت أسرة محمد على تمنحها لرجالها.. لأن هذه الطبقة لن تنسجم أبدًا مع فكرة العدل الاجتماعى، ورغم أخطاء كثيرة فى تطبيق الفكرة المرتبطة بزمانها فإن الناتج كان تقليص نفوذ أصحاب الأموال فى السياسة المصرية، وتتخذ ثورة يونيو منهجًا مختلفًا، وتشجع رأس المال الخاص، لكنها بكل تأكيد معادية لأشكال الفساد، والاحتكار، وتقاسم خيرات البلد بين شلة معينة.. إلى آخر أشكال الفساد التى عرفتها مصر قبل ٣٠ يونيو.
من أوجه التشابه أيضًا الإيمان بدور الدولة فى رعاية مواطنيها، حيث توسعت ثورة يوليو فى خدمات التعليم والصحة والإسكان الشعبى، وكان توزيع الأراضى على الفلاحين هو وسيلتها الأقوى لإنصاف الريف المصرى وسكانه، ولأن ذلك كان يتم فى فترة صعود الاشتراكية فى العالم كله فقد بدت هذه الخطوات وكأنها نزوع للاشتراكية، والآن تقوم ثورة يونيو بوظيفة الدولة كاملة تجاه مواطنيها فى التعليم والصحة والإسكان، والطرق، وغيرها تحت مفهوم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وتحت شعار محاربة الفقر وفق أهداف ومبادئ الأمم المتحدة، مع فارق فى حجم التحديات وسرعة الإنجاز بحكم تطور الآلات المستخدمة وحجم القوى العاملة الأكبر وعدد السكان الأكبر، ودخول الجيش بشكل صريح كطرف فى معادلة التنمية.
تشترك يوليو ويونيو فى تبنى كل منهما مشروع نهضة وطنيًا يقوم على استغلال إمكانات مصر لصالح أهلها، والسعى لدور إقليمى يليق بقيمتها، وطموحًا مشروعًا فى النهوض، والتقدم، ويبدو واضحًا جدًا أن يونيو تعلمت من أخطاء يوليو، كما يتعلم الابن من أخطاء الأب، ويبدو هذا واضحًا جدًا فى الحذر السياسى، وعدم الانجرار للحروب خارج الوطن مهما كانت المغريات، وتفضيل العمل على الكلام الموجه للجماهير، والتزام السرية فى الخطوات التى تتم لمواجهة التحديات، وإدارة السياسة المصرية فى المنطقة بشكل يمزج بين المصالح والمبادئ الأخلاقية، وهى كلها دروس تعلمتها مصر وتميزت بها ثورة يونيو.. والتى نأمل جميعًا أن تنجح فى تحقيق حلم النهضة المصرية، وأن تتجنب العثرات والضربات التى أجهضت كل مشاريع النهضة منذ عصر محمد على وحتى الآن.. وستنجح بإذن الله.