مكتبة العندليب.. كيف يرى عبدالحليم حافظ الأدباء والشعراء والمفكرين؟
ظن الكاتب الصحفى الكبير جليل البندارى «١٩١٧- ١٩٦٨» أن خادمة المنزل تسرق الكتب لتبيعها، إذ لاحظ أكثر من مرة اختفاء كتب مهمة، فقرر مراقبة كل من يدخل المكتبة ليعرف الحقيقة، واكتشف أن صديقه الفنان عبدالحليم حافظ هو الذى يسرق كتبه، وكان يأخذ كتابًا أو كتابين فى كل زيارة.. واقعة ذكرها «البندارى» فى مقال بمجلة الكواكب، عن «حليم المثقف»، الذى اعتبر القراءة عنصرًا مهمًا فى حياة الفنان.
حقيقة أكدتها الإذاعية نادية صالح فى برنامجها «فى زيارة إلى مكتبة فلان»، إذ شاهدت الإذاعية الكبيرة الأعمال الكاملة لأهم الأدباء والمبدعين والمفكرين تزين مكتبة «حليم»، بتوقيع كُتابها، فجميعهم أصدقاء مقربون من العندليب الأسمر، قرب حقيقى وليس من أجل الخيلاء، بل لإدراك عبدالحليم حافظ أن موهبة الفنان لن تكتمل إلا بثقافة ومعرفة تعلى من شأنها.
توفيق الحكيم.. فيلسوف وأروع مَن كتب الحوار فى أدبنا المعاصر
كانت مكتبة «حليم» تضم الأعمال الكاملة للكاتب الكبير توفيق الحكيم، وقرأها المطرب الجميل أكثر من مرة، لأنه اعتبر «الحكيم» فيلسوفًا وليس مجرد كاتب، يقول عنه العندليب: «توفيق الحكيم من أروع مَن كتب الحوار فى تاريخ أدبنا المعاصر».
وضمت المكتبة كذلك الأعمال الكاملة للكبار: نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس، والأعمال الشعرية الكاملة لنزار قبانى.
لم يكتفِ «حليم» بقراءة كتب هؤلاء الكتاب فقط، بل حرص على أن يكون صديقًا لهم، فكان من أصدقاء إحسان عبدالقدوس ومحمد حسنين هيكل ويوسف إدريس، وسمحت له هذه العلاقات بدخول أغلب التجمعات والصالونات الثقافية، وهذا الأمر سيتيح له تعلم المزيد، ووضع أمام عينيه نصيحة الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب: «إحنا لما بنقعد فى مكان ما بنتكلمش.. بنسمع»، وكان يحرص على الاستماع فقط فى هذه الصالونات الثقافية.
قبل السفر.. دراسة عادات وتقاليد الشعوب
وهناك وقائع كثيرة تثبت أن «حليم» لم يكن مطربًا فقط، بل كان فنانًا عبقريًا وجريئًا ومثقفًا، فحسب ما وثقه الكاتب عمرو فتحى فى موسوعة أغانى عبدالحليم حافظ، الصادرة عن دار الكرمة، فلم يرفض أحمد فؤاد حسن، قائد الفرقة الماسية، طلب «حليم» الاستعانة بعازفين من خارج الفرقة، مثل عازف الجيتار عمر خورشيد، وعازفى الأورج مجدى الحسينى وهانى مهنا.
كان قبول أحمد فؤاد حسن قيادة «حليم» للفرقة الماسية فى البروفات وعلى المسرح، حدثًا استثنائيًا يدل على عمق الصداقة التى ربطتهما، ويقول «حسن»: «كنا بنقبل إن عبدالحليم يقود الفرقة لأنه متعلم، متعلم موسيقيًا، يعنى مفيش مانع إنه يقود الفرقة، لأن ثقافته الموسيقية تتفق مع ثقافتنا بالتقريب».
درس «حليم» الموسيقى، ثم درّسها لأكثر من عشرة أعوام، كمدرس فى وزارة المعارف، قبل أن يقرر التفرغ للموسيقى، بعد قبوله كعازف على آلة الأوبوا فى الإذاعة المصرية، ومطرب أيضًا.
كانت ثقافة «حليم» الموسيقية نابعة من إدراكه لأهمية المعرفة فى العموم، وليست الثقافة الموسيقية فقط.
«حليم» كان يهتم بالقراءة أيضًا عن الدول التى يسافر إليها، فقرأ العديد من الكتب عن المملكة العربية السعودية قبل سفره إليها، وذكر أن واحدًا من تلك الكتب مكون من ٨٠٠ صفحة، قرأها بالكامل عن تاريخ المملكة وعادات وثقافة أهلها.
صلاح عبدالصبور.. سيكون أحد أهم رواد الشعر الحديث
ثقافة «حليم» كانت سببًا فى دقة اختياره كلمات الأغنيات، والألحان العظيمة التى قدمها ملحنون كبار، فأول قصيدة مغناة للشاعر العظيم صلاح عبدالصبور كانت بصوت عبدالحليم حافظ، ومن ألحان كمال الطويل، وكانت بعنوان «لقاء»، وقُدمت للمرة الأولى يوم ١٥ يوليو ١٩٥١ بالإذاعة المصرية.
وعن لقاء «حليم» مع «عبدالصبور»، ذكر عمرو فتحى فى موسوعة أغانى عبدالحليم حافظ: «تعرف عبدالحليم على الشاعر صلاح عبدالصبور فى جلسة أصدقاء على مقهى فى مدينة الزقازيق، حضرها الشاعر مرسى جميل عزيز. كان صلاح عبدالصبور شاعرًا، غير معروف يقرأ شعره لأصدقائه، وأعجب عبدالحليم بقصيدته (لقاء)، فطلب منه السماح بتحويلها لأغنية، ولحن كمال الطويل ثمانية أبيات من القصيدة المكونة من أربعة عشر بيتًا». ثم أصبحت صداقة استمرت بعد ذلك بالشاعر الكبير صلاح عبدالصبور.
أدرك «حليم» منذ اللحظة الأولى أنه أمام شاعر حقيقى، سوف يصبح أحد أهم رواد حركة الشعر العربى الحر والمسرح الشعرى، علمًا بأن أول ديوان أصدره عبدالصبور كان بعد أغنية «لقاء» بست سنوات.
امتلأت مكتبة «حليم» بالدواوين الشعرية للكبار، ليست الرواية والقصة والكتب الفكرية فقط، ومنها: أعمال صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى وكامل الشناوى ونزار قبانى.
اهتم حليم أيضًا بالقراءات العلمية، خصوصًا المتعلقة بمرضه الذى تسببت فيه البلهارسيا، لدرجة أنه قرأ فى إحدى المرات جميع محاضر الجلسات المقدمة فى واحد من المؤتمرات العلمية المقامة فى مصر عن البلهارسيا.
القراءة.. دافع للهروب من مشاعر اليتم والعزلة
يفسر «حليم» رغبته الشديدة فى القراءة قائلًا: «الفنان بيعبر عن الناس فلازم يكون على إلمام بكل ما يدور حوله ومطلع عليها ويعرفها معرفة حقيقية عشان وقت ما يجى يلحن أو يغنى أو يمثل يقدر يعبر عنهم بشكل كويس». ويحكى عبدالحليم حافظ أن حبه للقراءة والكتابة بدأ منذ الطفولة، وكانت نشأته يتيمًا سببًا رئيسيًا فى ذلك: «كنت بشعر بحزن لما أشوف الأطفال مع أمهاتهم وأنا لأ، وخفت تكبر معايا عقدة من عدم وجود الأب والأم فقررت أعزل نفسى عن الناس لحد ما أتجاوز الألم ده، وفى العزلة دى كانت القراءة والسماع أكبر رفيق».
ومثل أى قارئ مخضرم كانت للعندليب طقوس معينة فى القراءة، أغربها هو أن يخط بقلمه فى الكتاب ويضيف ملحوظات وتعليقات وشروحات فى الهامش وبين الفقرات، المسألة التى كانت تلفت انتباه زائريه. يحكى المقربون من العندليب أن عشقه للكتب والقراءة لم يكن لمجرد التباهى أو على اعتبار أنه مظهر اجتماعى مطلوب، لكن انطبعت تلك القراءات على تصرفات «حليم» التى جعلته فى كثير من الأحيان أشبه بالكادر السياسى فى تصرفاته المرتبطة بمواقف معينة تتعلق بمصر، نموذجًا لذلك وجوده فى المغرب وقت تنفيذ محاولة انقلابية فاشلة على الملك الحسن ملك المغرب.
هناك، حاول الانقلابيون دفع العندليب لقراءة بيان الانقلاب عندما وجدوه فى الاستديو، ورغم صعوبة الموقف فإن العندليب تصرف بذكاء ملموس، ورفض قراءة البيان معللًا ذلك بأنه عبدالحليم حافظ، وإذا قرأ البيان سيعتبر المستمعون أن مصر هى التى نفذت الانقلاب، وكان نتيجة الرفض ضربًا مبرحًا تلقاه عبدالحليم قبل أن يبرح مدبرو الانقلاب المكان، وعاد إلى الفندق فى ذلك اليوم محمولًا بسيارة نقل الموتى.