صواريخ الجنرال.. كيف أنقذ الجوهرى الفراعنة بـ«تدريبات الصاعقة»؟
«انطلاقتى الحقيقية بدأت مع الخبير الألمانى ديتمار كرامر، أحد صناع نهضة بايرن ميونخ وألمانيا الغربية عمومًا بكرة القدم»، هكذا وصف أسطورة الكرة المصرية الراحل محمود الجوهرى سر نجاحه.
خلال الفترة من ١٩٧٨ حتى ١٩٨١، استمع «الجوهرى» لحكايات «كرامر» عن مشواره فى التخطيط لكرة القدم بدولة اليابان، وكان «كرامر» هو الأب الروحى لكرة القدم اليابانية، كان عليه التخطيط وعلى كل عناصر المنظومة تنفيذ خطته بكل دقة وإتقان، ومن هنا أصبح «الجوهرى» مغرمًا بالتخطيط لمستقبل الكرة وبناء منظومة تسير فى نسق واحد لتحقيق هدف أساسى هو تطوير اللعبة.
يحكى الصحفى الرياضى عمر البانوبى، فى كتابه «الجنرال»، عن الأسطورة محمود الجوهرى، راصدًا بدايات تعرفه على «كرامر» قائلًا: «فى تلك الآونة، كان العميد بسلاح الإشارة محمود الجوهرى قد أدى واجبه الوطنى ودفع ضريبة الدم بالمشاركة فى حرب أكتوبر المجيدة، ويستعد لاستراحة محارب، وترك القوات المسلحة وتفرغ للعمل بكرة القدم، ثم تدخل القدر واجتمع (كرامر) بـ(الجوهرى) فى نادى اتحاد جدة، ثم عاد بعد سنوات إلى القاهرة ليقود منتخب مصر بروح الجنرال، والغرام بالتخطيط لمستقبل الكرة».
أخرج المنتخب من حصار «المايوهات»
فى إيطاليا، وبعد الصعود للبطولة الأهم فى عالم الساحرة المستديرة، وجد «الجنرال» أن اللجنة المنظمة للبطولة وضعت منتخب مصر فى الفندق ذاته الذى يقيم به منتخب إنجلترا، ورأى ترف الفندق وحضور النساء بالمايوهات على حمام السباحة، ومثل أى جنرال يتعامل مع جنوده على أرض المعركة قرر تغيير فندق الإقامة فورًا لضمان تركيز اللاعبين.
يتذكر حسام حسن، نجم المنتخب المصرى، هذه الأيام بقوله: «محل الإقامة الجديد كان عبارة عن فندق متواضع يشبه الشاليهات، فلا عمال نظافة ولا خدمات، بل نحن من نخدم أنفسنا، ونكوى ونطبخ كل شىء».
ويستكمل حسام حسن: «كان واضحًا جدًا أن الجوهرى يرغب فى أن يضعنا تحت الحصار استعدادًا للمونديال، لقد اختار سمير عدلى أسوأ فندق ممكن، فندق منعزل، وتقريبًا نحن لم نشاهد إيطاليا خلال كأس العالم ١٩٩٠».
ولأنه قائد عسكرى، يدرك جيدًا مواطن القوة لدى جنوده، قرر «الجنرال» أن يصطحب حسام حسن معه إلى بطولة الأمم الإفريقية فى بوركينا فاسو فى عام ١٩٩٨، معتبرًا أنه اللاعب الوحيد فى مركز المهاجم الصريح فى قائمته، متجاوزًا كل انتقادات الصحف حول سن اللاعب التى تجاوزت ٣٢ عامًا.
صنع معجزته الكروية الخاصة فى الأردن
فى السنوات الأولى من الألفية الثالثة، تلقى الجوهرى عروضًا عديدة من أندية ومنتخبات، بينها المنتخب التونسى المتأهل إلى نهائيات كأس العالم ٢٠٠٢، وفى تلك الفترة أيضًا تولى الأمير الشاب على بن الحسين رئاسة الاتحاد الأردنى لكرة القدم فى سن الثالثة والعشرين، وبعد عامين فقط قرر بدء التجربة الملهمة، وقدم عرضًا لـ«الجنرال»، الذى بدأ مع المنتخب الأردنى تجربة جديدة، فى أرض لم يسبق لها تحقيق الإنجاز الكروى، ليدشن خطته الخاصة كما تمنى على طريقة ملهمه الألمانى «كرامر».
وبخبرات السنين والمواقف، سعى الجوهرى لصناعة مجد الكرة الأردنية التى لم تكن على خريطة آسيا الكروية من الأساس، خاصة أن المنتخب الأردنى لم يسبق له أن تأهل لنهائيات كأس الأمم الآسيوية.
فى الأردن، كوّن الجوهرى وجهازه المعاون منتخبًا من المحاربين، الذين لم تكن لهم أسماء رنانة حتى على مستوى الكرة المحلية الأردنية، كما تابع كل المباريات حتى الدرجات الأدنى، وأسس لنظام الاحتراف الذى تسير عليه الكرة الأردنية حتى الآن.
وقاد الجوهرى منتخب الأردن، الذى تسلمه وهو يصارع فى مراتب تحت الـ١٠٠ الأولى فى ترتيب المنتخبات، إلى احتلال المرتبة الـ٣٧ عالميًا، وأسس كل شىء، بدءًا من التغيير الشامل لنظام كرة القدم فى المملكة الأردنية، مرورًا بتأسيس نظام خاص للمنتخبات الوطنية.
ومع نظام الجوهرى، وصل بالمنتخب الأردنى إلى نصف نهائى كأس العرب فى عام ٢٠٠٢، ثم صنع المجد الحقيقى والمعجزة بالتأهل للمرة الأولى فى التاريخ لنهائيات كأس الأمم الآسيوية، بل والوصول إلى ربع النهائى، والخروج أمام منتخب اليابان القوى بركلات الترجيح، بعد أداء عروض مبهرة.
وفى عام ٢٠٠٩، بدأ الجوهرى الاهتمام بمواهب الكرة الأردنية وأعاد تخطيط كل شىء مجددًا، حتى مبنى الاتحاد الأردنى لكرة القدم، لكن القدر لم يمهله، وسقط «الجنرال» فى عام ٢٠١٢ فى منزله ليدخل على إثر السقطة فى غيبوبة انتهت بوفاته.
وعن وفاة الجوهرى يقول نجم الكرة المصرية إبراهيم حسن، الذى سافر وأخوه حسام خصيصًا إلى الأردن فور معرفتهما بدخول «الجنرال» إلى المستشفى: «تلقينا الخبر الصادم، لم أصدق، انتظرنا لنعرف الترتيبات، وأقيمت له جنازة عسكرية مهيبة فى الأردن، وانتقلنا مع الجثمان إلى القاهرة لنحضر جنازة عسكرية ثانية».
استعد لمونديال 1990 كقائد عسكرى
عن الاستعدادات للمشاركة فى بطولة كأس العالم ١٩٩٠، يحكى نجم الكرة المصرية أحمد شوبير، حارس مرمى المنتخب المصرى فى البطولة، عن مفاجآت التدريب مع محمود الجوهرى، مدرب المنتخب وقتها، قائلًا: «اصطحبنا الجوهرى لطريق أحمد عرابى بين القاهرة والإسماعيلية، لنبدأ تدريبات بدنية بالجرى لمسافة تقترب من ١٠ كيلومترات، والختام بصعود جبل من الرمال».
ويضيف: «المفاجأة الكبرى كانت بعدما اصطحبنا لفرقة صاعقة، وتدربنا كما الجنود على مرور الحواجز والصعود على السلالم المصنوعة من الحبال».
منهج تدريبات التحمل، الذى أسس له «الجوهرى» أصبح منهجًا لمدربين عديدين على مستوى العالم بعد ذلك، بل أصبح بعض الأندية الإنجليزية يأتى إلى صحراء الشرق لإقامة معسكرات بدنية فقط، تتضمن تدريبات مشابهة على الرمال.
ومنذ اللحظة الأولى، تعامَل «الجنرال» مع مسألة كرة القدم تعامُل الجندى فى المعركة، واعتبر المسألة ليست مجرد مكسب أو خسارة، بل حياة أو موت، لذا آمن جمهور الكرة المصرية بمدربهم، ولم يهتفوا وقت المونديال للاعب من الأهلى أو الزمالك، بل تعالت الهتافات فى شوارع القاهرة باسم شخص واحد «جوهرى.. جوهرى».
وكانت مباراة الحسم فى القاهرة فى عام ١٩٨٩ أمام الجزائر، وكان الفوز معناه قنص بطاقة الصعود للمونديال، ومع بداية اللقاء وفى الدقيقة الرابعة نجح السيناريو الذى رسمه الجوهرى، وسجل لاعب المنتخب حسام حسن هدف الصعود لكأس العالم ١٩٩٠، وهتف جمهور مصر فى شوارع المحروسة «جوهرى.. جوهرى».
الفوز بـ«تكنيك القادمين من الخلف»
مع صافرة بداية المباراة الأولى فى أمم إفريقيا ببوركينا فاسو، ظن البعض أن الجوهرى سيهاجم بحسام حسن وحيدًا، وسيمنح أدوارًا دفاعية للاعبى منتصف الملعب وظهيرى الجانبين، لكن حدثت المفاجأة ولعب الفريق بطريقة مختلفة، وابتسمت الكرة لحسام حسن الذى سجل هدفين فى الدقيقتين ١٤ و٤٤ من المباراة، وفقًا للطريقة التى لم يكن يفهمها أحد آنذاك سوى «الجنرال».
واعتمد محمود الجوهرى فى خطته على «تكنيك» مختلف، مع منح الأدوار الهجومية للقادمين من الخلف، وفق تحركات لم تعتد عليها المنتخبات المنافسة، وكان الثنائى حازم إمام وعبدالستار صبرى، ومعهما حسام حسن، من أبطال المشهد فى كل هجمة، بالإضافة إلى الثنائى ياسر رضوان وياسر ريان. وفى كتابه «الجنرال»، يصف الكاتب عمر البانوبى تشكيل الجوهرى فى نهائى كأس الأمم الإفريقية عام ١٩٩٨ بأنه التشكيل الذى أعاد صياغة اللعبة من جديد فى إفريقيا والعالم كله، قائلًا: «يكفى أن تعرف أن مشاركة هانى رمزى فى منتصف الملعب لفتت أنظار المدرب الألمانى المخضرم أوتو ريهاجل، الذى بادر بضمه إلى كايزر سلاوتيرن، بطل الدورى الألمانى آنذاك». ويحكى حازم إمام، نجم منتخب ١٩٩٨، عن الجوهرى بعد تلك البطولة قائلًا: «كان يملك أفكارًا مختلفة، ولديه شغف بكرة القدم بشكل غير محدود، ومفاجأة كأس الأمم الإفريقية ١٩٩٨ أصبحت الطريقة التى يعتمد عليها أكبر مدربى العالم فى مختلف الأندية الأوروبية فى الوقت الحالى». «يعنى إيه أفكر؟ اللى كابتن جوهرى يقوله هو الصح»، بهذا رد حسام حسن على سؤال الصحفى الرياضى عمر البانوبى حين سأله عن تكنيك الجنرال فى كأس الأمم الإفريقية ١٩٩٨، وهل فكر فى أن الطريقة التى اعتمد عليها المنتخب خلال البطولة قد تؤثر عليه سلبًا وسط الانتقادات العنيفة.