الميليشيات العراقية والوجود الأمريكى.. هل من نهاية؟
المتابعون المعنيون بملف الوجود العسكرى فى العراق وما تتعرض له القوات الأمريكية، منذ واقعة اغتيال «قاسم سليمانى» قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى، والرجل الأهم لسياسات طهران الخارجية بالمنطقة، ومعه «أبومهدى المهندس» قائد ميليشيات الحشد الشعبى العراقية ذات الارتباط بشكل أو بآخر بإيران، فى يناير من العام ٢٠٢٠- يلحظون بسهولة أن هذا التاريخ يمثل خطًا فاصلًا ما بعده شديد الاختلاف عما قبله، فقد صارت هذه القوات فى مرمى الخطر طوال الوقت وفقًا لما تجابهه من عناصر تهديد متنوعة، البعض منها بهجمات مباشرة للقواعد والمصالح عبر تقنيات وتكتيكات متطورة، وآخر يرصد من قبل أجهزة الاستخبارات الأمريكية والعراقية يتمثل فى صناعة بنية أساسية متكاملة، تضمن استمرارية التهديد وتؤكد وتنفذ هدفها الاستراتيجى الذى يتمثل فى تقويض التواجد والنفوذ الأمريكى بالعراق.
من هؤلاء المتابعين لهذا الأمر، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وهو أحد مراكز التفكير المهمة فى العاصمة الأمريكية، الذى تناول أحد التنظيمات الجديدة فى العراق الذى ظهر بعد التاريخ المشار إليه. المثير أن المركز توصل أو مرر إليه معلومات مهمة ودقيقة، عن تنظيم «لواء ثأر المهندس» الذى صنفه كـ«تنظيم واجهة» وهو توصيف صحيح بالفعل، باعتبار ظهوره للمرة الأولى فى مايو ٢٠٢٠، حيث نشر التنظيم بيانه الأول عبر قناة مستحدثة على تطبيق «تليجرام»، وفيه زعم أنه استهدف قوات أمريكية فى مطار بغداد بأربعة صواريخ كاتيوشا، فى ٦ مايو ٢٠٢٠، وادعى التنظيم فى البيان نفسه أنه استهدف أيضًا مروحيات «شينوك» الأمريكية بصاروخين فى بغداد فى ١٧ إبريل ٢٠٢٠. استخدم «لواء ثأر المهندس» قناته على «تليجرام» تسع مرات فقط، قبل أن تهمل بعد ٢٥ يونيو ٢٠٢٠، وتشير أدلة واضحة ومقنعة وصلت إلى مركز واشنطن إلى أن الحسابات والقنوات المرتبطة بـ«عصائب أهل الحق» وهو أقوى وأكبر أجنحة «الحشد الشعبى»، غالبًا ما كانت تعيد نشر منشورات هذا الحساب الأصلى ومشاركتها، فى حين أن الحسابات التابعة للفصائل الرئيسية الأخرى كانت تتجاهل بيانات «لواء ثأر المهندس» ومنشوراته بصورة لافتة وتثير التساؤل بالتأكيد.
فى السابع من يوليو ٢٠٢١، استحدث حسابًا جديدًا لـ«لواء ثأر المهندس» ونشر عليه أن الجيش الأمريكى هو الذى سيدفع ثمن أرواح الشهداء، وجاء هذا المنشور بعد ٢٠ دقيقة من هجوم صاروخى كبير «١٢ صاروخًا» استهدف «قاعدة عين الأسد الجوية». ومثل هذا المنشور أول اعتراف للميليشيا المذكورة بمعرفتها بالهجوم، خاصة ووفق الدور الوظيفى له أنه بعد «٥٦ دقيقة» من الهجوم أصدرت قناة «لواء ثأر المهندس» بيانًا تبنى فيه التنظيم مسئوليته عن الهجوم، زعم فيه أنه أطلق «٣٠ صاروخًا» على ذات الهدف، ولاحقًا أعيد نشر هذا الادعاء على عدة حسابات وقنوات تابعة لـ«عصائب أهل الحق» و«حركة النجباء». ولهذا رأى المركز الأمريكى أن توقيت عودة ظهور «لواء ثأر المهندس» هو جزء من تصعيد منسق على نطاق أوسع، برعاية جميع الفصائل الرئيسية، حيث اعتبره ردًا على الضربات الجوية الأمريكية التى وقعت فى ٢٨ يونيو ٢٠٢١. كما تشير تلك الملابسات إلى أن التنظيم تلقى التوجيهات مما يسمى بـ«الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية»، خاصة مع الترحيب والإشادة التى تلقاها من كل من «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله»، وكلاهما كما أشير يمثل الجسم الأكبر والأبرز فى منظومة الحشد المتنوعة الأسماء والأدوار.
هذه الهيئة التنسيقية الجامعة المشار إليها، قامت بما هو أكثر إثارة للقلق الأمريكى والعراقى على حد سواء، بوقوفها خلف إقامة الاستعراض العسكرى الأخير فى ٢٦ يونيو من هذا العام، ووصف بالأكبر والأخطر حين جرى فى «معسكر أشرف» بمشاركة ميليشيات «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«بدر»، وفيه ظهرت للمرة الأولى أنواع جديدة من الطائرات دون طيار «المسيرة»، مع مركبات التحكم التى زودت بها إيران قوات الحشد فى الآونة الأخيرة، وأبرزها المسيرة المطورة «مهاجر ٦» المزودة بتقنية البحث الكهروبصرية، ويمكنها حمل «٤ قنابل» صغيرة الحجم أو نفس العدد من الصواريخ الموجهة. وقد ذكرت تقارير المتخصصين فى هذا النوع من التقنيات العسكرية، أن «مهاجر ٦» يبدو أن تصنيعها قد جرى من أجل ساحة العمليات العراقية بالخصوص، فهى تقل فى الحجم ومدى الطيران عن الطائرات المسيرة الإيرانية الكبيرة الأخرى. وفى هذا العرض أيضًا بدا التجهيز أكثر إحكامًا وتنوعًا بحيث يكشف تعمد أن يكون مناظرًا فى جانب منه، لقدرات الجيش العراقى وأجهزة مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية أو يفوقها فى البعض منه، خاصة مع ظهور محطات التحكم الأرضى المزودة بأجهزة رادار بعيدة المدى، بالإضافة إلى معدات أخرى تختص بالتتبع بعيد المدى، التى ذكر منظمو العرض صراحة أنها مخصصة وقادرة على تحديد المواقع الجغرافية للطائرات بدون طيار، وهو سلاح مضاد لما جرى من توسع فى استخدام المسيرات من قبل القوات الأمريكية.
تعتبر المسيرة «مهاجر ٦» طرازًا جديدًا لم يجر اختباره عملياتيًا حتى الآن، لكن ظهوره ينبئ بتوسع كبير ينتوى الحشد المضى فيه، بالنظر فقط للطرازات السابقة التى يمتلكها بالفعل وهما «سحاب» و«صماد ٢،١» واضطلاعهما بتنفيذ خمس هجمات سابقة على منشآت أمريكية فقط منذ أبريل ٢٠٢١ وحتى الآن. وهى من المسيرات التى توصف بـ«ذات الأجنحة الثابتة» واستخدمت فى اليمن خلال الفترة الماضية، بكفاءة وبقدرات ظل يجرى تحديثها على مدار سنوات لم تطل، فالمسيرة «صماد» بدأت بنسختها الأولى محدودة التأثير لعام واحد فقط، قبل أن تلحقها نسختها الثانية، واليوم «صماد ٣» هناك تقارير عدة لاختصاصيين تمكنها من محاصرة إحداها، والحصول عليها سليمة، يؤكدون بعد الفحص أنها قادرة مثلًا على الطيران لمسافة تصل إلى «١٠٠٠ كم»، لهذا نحن الآن أمام احتشاد مركز وإصرار إيرانى على بقاء المراهنة على هذا النوع من الأوراق، فى قبضة طهران وداخل محفظة استثمارها فى مواجهة الولايات المتحدة، التى تشتبك معها فى العديد من الملفات والمواقع ليس بعيدا عنها مفاوضات فيينا التى تبدو وكأنها ستسدل الستار على نهاية غير حاضرة بالمرة.