تجارة القبح
كنا فى عام ٢٠٠٩.. حين قرأت فى صحيفة مستقلة وقتها أخبارًا تهاجم ما عرفناه فيما بعد باسم مشروع تطوير ماسبيرو.. كانت الفكرة قد طرحت على الرأى العام، فانطلقت هذه الصحيفة تهاجم ما أسمته وقتها «تشريد سكان ماسبيرو».. كان من ينشرون هذا الكلام تحالفًا من متمولين بحجة الدفاع عن حقوق السكان.. وعناصر تدعى اليسارية.. وباحثين عن قضية ما.. وأناسًا يظنون أنه تجب مقاومة ما تقوم به الدولة أيًا كان.. ولأننى صحفى تحقيقات من الأساس، فقد كنت أعرف هذه المنطقة منذ سنوات طويلة.. كانت أول مرة أزورها فيها بعد زلزال ١٩٩٢ الشهير.. انهارت بيوت قديمة بها.. وكان التجمع الأساسى فيها يسمى «عزبة أولاد على»، وهو مثل كثير من العشوائيات فى مصر يضم مجرمين وخارجين على القانون ومروجى مخدرات.. وأتذكر أن رفيقى فى الجولة كان مواطنًا من أهالى المنطقة ما إن عرف أننى صحفى حتى بادرنى بالسؤال «أومال فين الكوداك يا باشا؟؟»، وكان يقصد الكاميرا الشهيرة التى يحملها المصورون فى الأفلام السينمائية.. كانت المنطقة بكل تأكيد فى حالة إزالة وتطوير مثل خمسمائة منطقة عشوائية فى القاهرة الكبرى وحدها.. ولا أعرف إن كانت هذه الحملة الانتهازية التى التحفت بحقوق السكان هى السبب فى تعطيل المشروع وقتها أم أن حالة الكسل والترهل ووقوع أحداث يناير ٢٠١١ هى التى عطلت المشروع.. لم أفهم ما الذى يدفع شخصًا عاقلًا ووطنيًا للدفاع عن القبح والعشوائية والجريمة فى قلب القاهرة الخديوية، ولا ما هو الضرر فى التسويات التى وقعت وحصل بموجبها السكان على وحدات سكنية فى عمارات حديثة بقلب المنطقة.. أو تعويضات مالية مجزية؟.. أغلب الظن أن هذه «الرطانة» الحقوقية واليسارية المغلفة بسحب من الجهل والبحث عن دور.. هذه الرطانة تخفى أسبابًا سياسية وراء كلماتها المنمقة وتظاهرها بالدفاع عن حقوق البشر فى العشوائية والقبح واللا تخطيط والاستيلاء على أراضى الدولة.. لقد تذكرت هذه الحملة وأنا فى لنش نهرى حملنى من الوراق إلى القناطر الخيرية لأمر من أمور العمل.. كانت هناك عشرات البيوت العشوائية على ضفاف النيل الساحرة.. وكانت البيوت تبدو مثل علب كبريت قبيحة انتصبت وسط الحقول الخضراء الممتدة أمام النيل.. وهى بكل تأكيد مبانٍ غير مرخصة وغير مخططة أيضًا، وتساءلت عن المسئول عن كل هذا القدر من العشوائية وعدم التخطيط والاستيلاء على أراضى الدولة.. واستخدام الرطانة الحقوقية فى الدفاع عن هذا القبح.. هذه أماكن ساحرة يجب أن يتم تخطيطها وبناؤها واستثمارها وإتاحتها لكل الناس، ولا يمكن الإقرار بحق ساكنى هذه البيوت فى الاستيلاء على الشاطئ العام للنيل من الوراق إلى القناطر.. نفس هذا المعنى تبادر إلى ذهنى وأنا أرى كتابات على فيسبوك تتباكى على إزالة مشتل أو مجموعة مشاتل من أحد شوارع المعادى لإقامة محور مرورى مهم.. وبداية أنا مع الحوار المجتمعى ومع تلافى تغيير الطابع المعمارى لأحيائنا بقدر الإمكان.. لكن المشتل هو قطعة أرض فضاء يتم استغلالها لزراعة شتلات مختلفة من نباتات الزينة وغيرها.. وهو بالتأكيد يمكن أن ينتقل إلى مكان آخر.. وما لاحظته هو وجود مبالغات شديدة فى الموضوع، مع أن فكرة نزع الملكية للانتفاع العام موجودة فى العالم كله، ويتم تعويض صاحب الملكية الخاصة بسعر السوق.. وأنا بكل تأكيد لست ضد أن يُعبِّر سكان الشارع عن حزنهم لتغير ملامح شارعهم.. لكن ضد استغلال هذه المشاعر استغلالًا سياسيًا.. وضد التجارة بها.. وضد إظهار الحكومة وكأنها تعادى الخضرة فى حين أن نفس هذه الحكومة تعمل على إضافة ٢ مليون فدان للرقعة الزراعية من خلال مشروع الدلتا الجديدة وغيرها.. وهذه الحكومة هى التى تسعى لمنع الاعتداء على الأراضى الزراعية وإلى الحفاظ عليها.. وبالتالى لا يمكن القول إنها ضد الخضرة لأنها أزالت مشتلًا يعترض طريق محور مرورى سيستفيد منه عشرات الملايين.. إننى أؤمن بأن كل المعانى النبيلة يمكن أن تجد من يتاجر بها.. ولن يكون العيب وقتها فى هذه المعانى ولكن فيمن يتاجرون بها.. ألا لعنة الله على المتاجرين.