محمد بركة: روايتي «حانة الست» تنزع «القداسة» عن أم كلثوم
الروائي محمد بركة:
ـ السوشيال ميديا تدمر الأدب دون أن تقصد
ــ الرواية التاريخية حجة الأديب البليد
ــ الجوائز تحولت إلى وسيلة ابتزاز لمساومة الأدباء على كبرياءهم
ــورش الكتابة " سبوبة " لطيفة تناسب هوانم الأحياء الراقية
ــ النقد العلمي المنهجي في ذمة الله ولم يعد يتبقى سوى إقامة سرادق العزاء
في روايته الأحدث "حانة الست"، والصادرة عن دار المثقف للنشر، يروي الكاتب محمد بركة القصة المحجوبة في حياة كوكب الشرق أم كلثوم. حول الرواية وإقامة معرض القاهرة للكتاب في ظل جائحة الكورونا، وعن النقد والورش الأدبية والرواية التاريخية وغيرها من هموم الواقع الثقافي كان لــ"الدستور" هذا اللقاء مع الروائي محمد بركة.
ـ كيف ترى قرار إقامة معرض الكتاب خاصة في ظل ظروف جائحة كورونا، وهل ألقت الجائحة بظلالها علي الكتابة ؟
إقامة المعرض في هذا التوقيت كان خطوة ملحة لا تملك الدولة رفاهية التراجع عنها، فمعرض القاهرة هو الحدث الثقافي الأبرز عربيا وأحد عناوين القوة الناعمة للبلد، وقد سبقه إقامة معرضي أبو ظبي و بغداد وهو ما يمثل ضغطا غير مباشر على صانع القرار الثقافي المصري حيث يتساءل الناس: وماذا عن مصر، أين المعرض الأهم والأكثر تأثيرا و الذي نتطلع إليه نحن العرب من المحيط إلى الخليج.
ولا شك أن جائحة كوفيد 19 ألقت بظلالها على الكتابة، فكثير من الأدباء يحاولون استلهامها في أعمال أرجو ألا تكون سطحية وتستثمر في هم عالمي، كما أن الجائحة وفرت فرصة ذهبية لمن كان لا يستطيع تنظيم وقته . شخصيا، لم تضف كورونا جديدا لي، فأنا من قبلها ومن بعدها أعمل على أكثر من نص بانتظام يوميا ولا تقترب ساعات اعتكافي الابداعي من خمس ساعات يوميا . كان نجيب محفوظ الأب الذي حاولت قتله والتهكم على طقوسه الراسخة وها هو الزمن يدور دورته وأسير على خطاه!
ــ تشارك في المعرض بروايتك الأحدث "حانة الست " ما الجديدة الذي تقدمه عن حياة أم كلثوم ووصفته في العنوان الفرعي للرواية بــ "القصة المحجوبة"؟
كتاب ومؤرخو السيرة الذاتية لأم كلثوم ظلموها على طريقة الدبة التي قتلت صاحبها حين قدموها في صورة مثالية تكاد تكون مقدسة وتجاهلوا إنسانيتها وضعفها البشري ظنا منهم أن ذلك يسيئ إليها، في حين أن العظمة الحقيقية لتلك المرأة الخرافية تتأكد حين نعيد اكتشاف إنسانيتها . وهذا ما فعلته في الرواية الصادرة عن دار " المثقف" والموجودة حاليا بمعرض الكتاب، نزعت هالة القداسة وقدمت الإنسانة الحقيقية بشموخها وهشاشتها ، بجبروتها ودموعها، فتجدين تركيزا على علاقتها السيئة جدا بأبيها والصفعات التي تلقتها منه، وطفولتها التي كانت مزيجا كئيبا من التنمر الاضطهاد والحرمان، فضلا عن علاقتها المعقدة بجسدها نتيجة ارتداءها للزى الرجالي حتى اقترابها من الثلاثين من العمر، وكيف قدمت "طقطوقة" خليعة بعنوان "الخلاعة مذهبي" لتجارى مطربات "الهنك والرنك" وتنافس منيرة المهدي ، فضلا عن الاستغلال العاطفي لأحمد رامي و القصبجي وسر أول وآخر حب حقيقي في حياتها وكيف كان زواجها من الملحن محمود الشريف مجرد صفعة موجهة للقصر وخال الملك، ناهيك عن الحرب الباردة مع عبد الوهاب وقصة الزيارة السرية لعبد الناصر لها في الفيلا حين استنجدت به بعد أن صفعها زوجها الطبيب أحمد الحفناوي.
-ألم تخش من رد الفعل واتهامك بتشويه أم كلثوم ؟
الرواية على لسان أم كلثوم التي اختارت أن تظهر بروحها في هذا التوقيت لتروى قصتها المحجوبة بمنطق الكبرياء، حيث لم تعد الرواية الرسمية القدمية لسيرتها الذاتية تصلح للأجيال الجديدة . أم كلثوم توصي المؤلف في مفتتح الرواية وتقول: ستكتبني بحب فلا تخشى أحدا !
ــ هل تعرضت لما ردده البعض من شائعات حول حقيقة ميولها المثلية؟
في نفس مفتتح الرواية، تقول أم كلثوم نفسها حول تلك الجزئية: نعم، أحببت النساء حبا رقيقا ناعما له ملمس الحرير، ولكنه ليس ذلك الحب الشرير الملهم لقصيدة "شريرة": مطر ..مطر..وصديقتها معها ولتشرين نواح.. لي أكثر من صورة وأنا أتبادل قبلات في الفم مع بعض السيدات. أكون غالبا في الاستراحة وتأتيني إحدى المعجبات في الكواليس لتمنحني شيئا حارا من روحها. تبادلت القبلات الفموية، شديدة العذوبة، مع سيدات تحت سمع وبصر الصحافة أنا الشخصية العامة التي لا تريد أن تصد معجبة .تظنون أن شيئا آخر كان يحدث وراء الأبواب المغلقة وتنسون أنه كان أمرا غير مستهجن في زماني أن تقّبل سيدة امرأة أخرى في شفتيها . نفس العادية التي يتبادل بها رجلان في الشرق قبلات حميمة على الخد رغم أن الأمر لا يزال غير مفهوم في الغرب على زمنكم".
ــ هل اعتمدت في الرواية على مراجع معينة ؟
اعتمدت على العديد من المصادر التاريخية ما بين كتب ومقالات ومذكرات، والرواية تحمل تنويها مهما في نهايتها يقول "الوقائع الواردة في هذا العمل حول حياة السيدة أم كلثوم نسجها خيال المؤلف اعتمادا على العديد من الحقائق المغيبة والمعلومات المنسية".
وكان التحدي الأكبر كيف أحافظ على هوية العمل كنص روائي وليس كتابا توثيقيا في السيرة الذاتية أو بحثا تسجيليا ولهذا حذفت 42 ألف كلمة، فقد كانت المسودة الأولى 85 ألف كلمة أما النسخة المنشورة فهى 43 الف كلمة فقط !
ــ في روايتك "أشباح بروكسل" تطرح قضية العلاقة بين الشرق والغرب ، ما الذي جري في النهر بين رواية توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" والطيب صالح في "موسم الهجرة إلي الشمال" وبين أشباحك؟
لم يعد الآخر هو فقط الأوربي الأشقر بعيونه الملونة وفتياته اللواتي يشكلن وعدا بغزوة جنسية، ذهب البطل في روايتي فوجد العرب من شمال أفريقيا والأفارقة والأتراك أكثر من الأوربيين . وبدلا من الأوربيات الحسناوات المتحررات، هناك أرامل ومطلقات عربيات يبحثن عن صفقة عنوانها: الإقامة مقابل الستر و الزواج!
ــ سبق و صرحت بأن هناك طفرة كبيرة في القراءة خلال الفترة الماضية. هل تراها طفرة حقيقية أم أنها مصنوعة نلمسها عبر السوشيال ميديا أم علي الأرض فمعركة الوعي تحتاج لأكثر من هذا ؟
لم أعد متفائلا. السوشال ميديا تدمر الأدب دون أن تقصد، فتوافه كتابات الرعب والجريمة والتشويق صنعت آلهة من عجوة . والشباب لا يشترون إلا وفق قوائم من ترشيحات وسائل التواصل . في البداية، كنت أقول لعل القراء ينضجون يوما ما ويتجهون إلى الأدب الذي يجمع بين الجدية والهم الحقيقي إلى جانب المتعة، فلست ضد حتى التسلية . وتمر السنون ولا يحدث شيء. لقد قيل عن أحمد خالد توفيق: جعل الشباب يقرأ، ولو أنصفوا لقالوا جعلهم يقرأون السطحي والتافه !
ــ شهدت السنوات الأخيرة انتشارا واسعا للرواية التاريخية سواء في كتابتها أو قراءتها. كيف تري الأمر وهل فكرت في خوض تجربة كتابة الرواية التاريخية؟
قديما قالوا: حجة البليد مسح السبورة، والآن أصبحت الرواية التاريخية حجة الكاتب البليد! إنها، فيما عدا استثناءات قليلة جدا، قناع مثالي يتخفى وراءه المدعون وأنصاف الكتاب وعديمو المواهب فيصفعوننا بمئات الصفحات بين دفتي كتاب لا يحمل ذرة واحدة من الفن!
لن اكتب رواية تاريخية، وإذا كتبتها ستكون على طريقتي وليس على طريق هذا الغثاء الذي يشبه غثاء السيل!
ــ ماذا تمثل الجوائز بالنسبة للكاتب؟ ولك علي وجه الخصوص؟
أعرف كتابا لديهم قوائم سرية بأعضاء لجان التحكيم ليغرقوهم في الهدايا وكافة أنواع الرشاوى . الجوائز في حد ذاتها شىء نبيل لكنها تحولت إلى أداة للإرهاب والابتزاز في يد قلة تساوم الآخرين على كرامتهم وكبرياءهم . بالنسبة لي حصلت على جائزة واحدة عام 1994 بحضور نجيب محفوظ نظمتها "أخبار الأدب" وكنت أصغر المتسابقين سنا وقالت الصحيفة في المانشيت الرئيسي"عشرون كاتبا هديتنا إلى مصر. وكان من بين الفائزين أشرف الخمايسي وعمار على حسن وأحمد أبو خنيجر.
ــ خلال العقد الأخير شهدت الساحة الثقافية ظهور العشرات من الكتاب وخاصة في فن الرواية. كيف تري الأمر وتحلله ؟
هناك هوس غريب وعجيب بالحصول على لقب "كاتب روائي"، فتجدين عشرات الكتب التي تحمل تصنيف "رواية" وهى في الحقيقة مقالات رديئة أو خواطر مراهق مكتئب أو قصة قصيرة بحاجة للتنقيح والتكثيف. طبعا أنا لست حارسا على بوابة الرواية، لكن يصعب علىّ أن تصبح صفة لمن لا صفة له .
ــ لمن يقرأ محمد بركة ولا يفوت عمل له ؟
محمد المخزنجي لكنه مقل للغاية ولا أعرف هل هو زهد أم أن جنية الغواية لم تعد تراوده عن نفسها . المنسي قنديل تعجبني كتابته، لكني لم أستطع أن أكمل روايته "كتيبة سوداء".
ــ هل تعترف بقاعدة "أكتب عما تعرفه" أم أن المبدع من حقه خوض آفاق تجريبية حتي لو لم يعرفها؟
لا أعترف بها، فهى مقولة تم تداولها بشكل ميكانيكي من مخلفات حكمة الستينيات والزمن تجاوزها، ولو جاز لي أن أعدلها لقلت: أكتب عما تنفعل به حتى لو لم تكن تعرفه .
ــ بين الكتاب الورقي والإلكتروني أيهما الأقرب إليك ولماذا ؟
الورقي بالطبع، بسبب الحميمية أولا وأخيرا، فضلا عن سهولة التحرك به في كل مكان والتحرر من عبوديتنا ولو قليلا لفضاء الشاشات الزرقاء.
ــ وهل الكتاب الورقي في طريقه للزوال ؟
أرقام التوزيع والإحصائيات حول العالم لا تشير إلى ذلك.
ــ هل عانيت صعوبات في أول طريقك مع النشر ؟
كان محررا ثقافيا "قد الدنيا" بمجلة الأهرام العربي، كان بمقدوري طبع مجموعاتي القصصية في كبرى دور النشر لكني لا أجيد لعبة المصالح وتوظيف علاقاتي الصحفية لتخدم تجربتي الأدبية رغم نصيحة شاعر كبير باستثمار عملي في الأهرام . ودفعت لناشر كسول انتهازي من لحم الحي ألف جنيه في نهاية التسعينيات حين كنت أعاني لتدبير إيجار الشقة !
ـ ما رأيك في "جروبات" القراءة وهل تضيف إلي الحراك الثقافي أم هي فقاعة صنعتها السوشيال ميديا؟
باستثناءات قليلة، تحولت جروبات القراءة إلى أداة للترويج لدور نشر بعينها، كما ساهمت في صناعة آلهة العجوة التي سبق الإشارة إليها.
ــ هل تصنع ورش الكتابة الأدبية كاتبا حقيقيا أم أنها مجرد ظاهرة من ظواهر الحياة الثقافية التي تظهر وتختفي بين الحين والآخر ؟
هى وسيلة تربح لكثير من الجهات والشخصيات، "سبوبة" لطيفة وشيك، أكل عيش ع الماشي لكن الكاتب تصنعه الموهبة والقراءة والعرق والكفاح والجلوس إلى الكيبورد . أما إذا أرادت بعض "الهوانم" التسلية والتعامل مع الكتابة الأدبية باعتبارها كلاس يشبه الأيروبكيس، فلا بأس!
ــ هل تغني العروض والمراجعات الصحفية عن دور النقد العلمي بالنسبة للكاتب خاصة لديك ؟
مراجعات الصحف بل واليوتيوب مهمة جدا وتسد جزءا من الفراغ الهائل الذي تسبب فيه غياب النقد العلمي المنهجي، الذي أستطيع القول بأنه توفى ولم يعد يتبقى سوى إعلان شهادة الوفاة وإقامة سرادق العزاء واحتساء القهوة السادة على روح الفقيد!