معضلة المرتزقة على الأراضى الليبية
المتابع للشأن الليبى؛ لا بد أن يلحظ أن الرئيس عبدالفتاح السيسى قد جاء على ذكر «المرتزقة» فى ليبيا، مرتين خلال أقل من ٤٨ ساعة. الأولى أثناء لقائه وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، وتأكيده على الدعم المصرى الكامل للعملية السياسية فى ليبيا، حيث خص بالذكر «المرتزقة»، كونهم المهدد الرئيسى لإجراء الانتخابات المقررة نهاية العام الجارى حسب تقديره. والمرة الثانية كانت خلال المؤتمر الصحفى الذى جمعه مع رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس، حين عاد الرئيس المصرى ليؤكد أن قضية «المرتزقة» والقوات الأجنبية فى ليبيا، كانتا أحد المحاور الرئيسية التى بحثت خلال اللقاء الثنائى، مشددًا على العمل الثنائى المصرى اليونانى المشترك المعنى بإخراج تلك التهديدات عن طريق بناء نظام سياسى ليبى مستقر.
اللافت أكثر للانتباه؛ ليس كون الرئيس السيسى وضع أصبعه بوضوح على مفتاح اللغز فى ليبيا، مثل مرات عديدة سابقة، أبرزها نموذج «الخط الأحمر» الذى أسهم بشكل رئيسى فى إرساء وقف إطلاق النار، تمكنت بعدها العملية السياسية من أن تمضى فى طريقها الذى ظل متعثرًا لسنوات. إنما ما جرى بعد هذا الحديث الرئاسى المصرى مباشرة وطوال أيام هذا الأسبوع، من عودة تصدر قضية المرتزقة والميليشيات والقوات الأجنبية، التى ما زالت قابعة على الأراضى الليبية، دائرة الاهتمام الإعلامى ومنصات مراكز الأبحاث العربية والأجنبية، وحالة الانتباه لغياب أى مشروع حقيقى لتفكيكها أو تقويض سطوتها، رغم اشتراط خروجها الذى جرى التوافق عليه من جميع الأطراف، قبيل تشكيل الحكومة الجديدة والمجلس الرئاسى الحالى. وهنا نحن أمام تقديرات عدة وصلت بعدد هؤلاء المرتزقة لـ«٢٠ ألف عنصر»، قامت تركيا بنقل غالبية تقدر بنحو «١٣ ألفًا» من سوريا وحدها، عبر تنفيذ أكثر من «١٥٠ رحلة جوية» خصصت لهذا الأمر خلال عام ٢٠٢٠ فقط.
صحيفة الجارديان البريطانية؛ على غير عادتها، أفردت مساحة معتبرة لتقرير طويل يتناول هذه القضية ومخاطرها، حيث حددت رقم «٢٠٠٠ مقاتل» سورى مدرب ومؤهل، ينشطون داخل كيان سمته «وحدة عمر المختار». وفى طيات التقرير أورد الاعتراف التركى الرسمى بأن أنقرة أقرت بوجود مرتزقة موالين لها، إلى جانب عناصر التدريب التابعة للجيش التركى، فى الوقت الذى أكد أيضًا أن وحدات المرتزقة تضم أيضًا قوات تشادية وسودانية، فضلًا عن «قوات فاجنر» الروسية، فى إشارة من التقرير إلى أن هناك على جانب مقابل من يستخدم نوعًا آخر من «المرتزقة». ما يمكن اعتباره إخفاقًا كبيرًا للمجتمع الدولى، هو أن الاعتراف التركى وغيره من الأدلة الدامغة، على وجود هذا المكون المسلح الذى يمثل تهديدًا عالى الخطورة، لم يطرأ عليه أى تراجع فى عدد المقاتلين الأجانب أو أنشطتهم، لا سيما فى وسط البلاد. بل هناك تقارير قدمت إلى الأمم المتحدة مؤخرًا من قبل مراقبى البعثة الأممية الخاصة بليبيا، وردت فيها طبيعة ونشاط «المرتزقة» فى إقامة تحصينات ومواقع دفاعية على طول محور «سرت- الجفرة» من الجهة الغربية وسط البلاد، فضلًا عن استمرار وجود العناصر العاملة عليه وتنامى المكون الأجنبى فيه!
جميع الأطراف ذات الصلة بالقضية الليبية وفى سياق هذه المعضلة؛ يضعون الأمر برمته فى عنق تركيا، التى تحاصرها الشواهد والأدلة من كل جانب. فالبعض منها تمارسه أنقرة فى العلن حتى اللحظة، حيث جاء فصلها الأخير أثناء الزيارة المعلنة لوزير الدفاع التركى إلى ليبيا، التى رتبت كى تتم قبل أيام معدودة من مؤتمر «برلين ٢»، كى يبعث من خلالها رسائل لجميع الأطراف، الدولية والإقليمية قبل أطراف الداخل الليبى. قام خلوصى آكار خلالها بقطع الطريق أمام أى احتمال لسحب القوات التركية من ليبيا، مدعيًا أن قواته فى البلاد ليست بالأجنبية، لأنها دخلت بناء على ما وصفها بالاتفاقيات الثنائية، ففى الوقت الذى لم يكن هناك مسئولون ليبيون فى استقباله، ليبدو الوزير التركى كما لو أنه يتفقد قاعدة تابعة لبلاده، تطرق فى اجتماعه بالضباط من الجيش التركى إلى أمر المرتزقة، وحث العسكريين الأتراك الذين يخدمون على الأراضى الليبية بضرورة حسن إدارة شئون «المرتزقة»، وضبط أدائهم خاصة مع توالى التقارير الدولية التى تتحدث عن تورطهم فى أعمال خارج السياق. ولم يكن خافيًا على الضباط الأتراك، أن وزيرهم يتحدث عن ترتيب آلية لفرض أمر واقع فيما يخص وجودهم كوحدات نظامية تابعة للجيش التركى، وأيضًا فى نمط الاحتفاظ بقوة «المرتزقة» الذين جرى الاستثمار فيهم كى يمثلوا القوة الضاربة التركية، أمام أى شكل لانتقال سياسى ليبى يهدد سيطرتهم على مقاليد الأمور.
فعليًا جرى استثمار تركى واسع فى هذه المنظومة المزدوجة. ففيما يخص «المرتزقة» باعتبارهم كيانًا هلاميًا غير محدد بدقة، تظل الأرقام الخاصة بهم من حيث العدد ونوعية التسليح والمستوى التدريبى، حجر عثرة ثقيلًا أمام أى حديث عن أفق للاستقرار. هذا الاستثمار لن تضحى به تركيا بسهولة، فالكثير من عناصر المرتزقة على سبيل المثال «القياديين» منهم، كان حافز الإغراء بالنسبة لهم للانتقال من سوريا إلى ليبيا هو منحهم الجنسية التركية، الأكثر شهرة فى هذا المكون هى العناصر التابعة لفرقة «السلطان مراد» التى غادرت محافظة حلب السورية إلى تركيا، ليتم نقلهم إلى ليبيا. فى الوقت الذى كانت تجرى فيه عملية انتهاك وابتزاز واسع مارسه المقاتلون فيما يعرف بـ«الجيش الوطنى السورى»، الذين قرروا لاحقًا بعد استقرار الدفعات الأولى من المرتزقة فى ليبيا، أن السفر إلى هناك صار إجباريًا وليس اختياريًا، حيث بدأوا يصبون جام غضبهم ويوقعون العقوبات على أولئك الذين رفضوا الانتقال إلى ليبيا، بالفصل من الجيش الوطنى وحرمانهم من الرواتب التى ظلوا يتقاضونها لسنوات، المئات منهم واجهوا أيضًا عقوبة الطرد من مناطق شمال سوريا الخاضعة لسيطرة الجيش الوطنى.
خريطة انتشار «المرتزقة» السوريين فى ليبيا، وفق التقارير الأمنية الأممية ذكرت مواقع ليبية بالاسم، وأكدتها بالطبع العديد من المصادر الليبية، أشهرها وأهمها قاعدة معيتيقة العسكرية، مخيم النعام، غابة النصر، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، مخيم النازحين، مشروع الموز بالفرنج، مشروع الهضبة، منطقة قصر الضيافة. وأقام المرتزقة لهم مجموعة من الارتكازات البارزة أيضًا فى منطقة السوانى، وفى منطقة السدرة جنوب طرابلس، والنادى الدبلوماسى قرب عين زارة. وتبقى فى النهاية الإدارة العليا لهذا المكون الهجين، مرتكزًا بالقرب من مدينة سرت من الناحية الغربية، وفى الغرب فى قاعدة «الوطية» التى تشكل أكبر قاعدة عسكرية بالقرب من الحدود التونسية. فهل ينجح مؤتمر «برلين ٢» فى أن يقتحم تلك المعضلة الماثلة أمام الجميع، ويتمكن من صياغة آلية تتعامل مع هذا الاختراق والانتهاك التركى الفاضح؟.