قناة إسطنبول.. هل من فرصة تركية حقيقية؟
تعتزم أنقرة شق «قناة إسطنبول» المائية فى الجانب الأوروبى من المدينة، بتكلفة مبدئية قدرت بـ«٢٥ مليار» دولار، وهى وفق التصور الهندسى ستكون مجرى مائيًا موازيًا لمضيق البوسفور على بُعد ٣٠ كيلومترًا منه، وتمتد فى منطقة غرب تركيا لتربط البحر الأسود فى الشمال ببحر مرمرة فى الجنوب، حيث يبلغ طولها الإجمالى ٤٥ كيلومترًا، وبعمق ٢٥ مترًا.
يبلغ عرض القناة نحو ٤٠٠ متر فى معظم هذه المسافة، لكنها وفق الطبيعة الجغرافية لمسارها المتوقع قد يصل هذا العرض فى بعض نقاطها إلى كيلومتر واحد فقط، وتبدأ القناة من البحيرة الطبيعية الشهيرة «كوتشوك شكمجة» فى بحر مرمرة، إلى الغرب من مدينة إسطنبول، وتمتد شمالًا إلى «سد سازليديرى»، ثم قرية «شاملار» حتى تصل إلى البحر الأسود.
يرى حزب «العدالة والتنمية»، وعلى رأسه رجب أردوغان، عراب هذا المشروع، أن القناة الجديدة مرشحة بقوة لأن تحصد حزمة من المكاسب لصالح تركيا، فهى من الناحية الاستراتيجية لن تخضع لاتفاقية «مونترو» الموقعة عام ١٩٣٦، التى تنص على حرية الملاحة فى مضايق البحر الأسود، ومن بينها البوسفور التركى. هذه الاتفاقية تسمح للسفن التابعة للدول المطلة على البحر الأسود بحرية المرور والوجود فى حوض البحر الأسود، أما السفن التابعة لدول خارج حوض البحر الأسود، فيسمح لها بالوجود لمدة ثلاثة أسابيع.
التقديرات التركية فى هذا الجانب ترى أن القناة الجديدة تمثل تجاوزًا للخسائر والقيود التى تكبلها بها اتفاقية مونترو، باعتبار أن الأخيرة فرضت على تركيا تسعيرة مرور مخفضة، حرمتها من متحصلات قدرتها أنقرة بنحو ١٠ مليارات دولار سنويًا، فضلًا عن تحمل تركيا المسئولية المباشرة عن مرور السفن الأجنبية لحوض البحر الأسود، وقد عبرت مرارًا عن رغبتها فى فرض إجراءات أكثر صرامة، تمكنها من التحكم فى حركة السفن، وبالأخص ناقلات النفط، كونها تشكل ضررًا كبيرًا على البيئة.
كما لم تسلم حركة مرور السفن الحربية من الغضب التركى، نظرًا لاستشعارها دومًا أن تلك الحركة الملاحية تجرى رغمًا عن أنفها، وقد تسبب هذا الأمر فى العديد من المشاحنات بين تركيا والدول الموقعة على الاتفاقية، وخاصة روسيا التى كانت أول من لفت الانتباه إلى إمكانية استخدام تركيا هذه القناة فى الأغراض العسكرية، مما سيمتد بالضرورة لحلفائها، حيث تتوقع موسكو أن هذا سيفتح الباب لوجود السفن الحربية الأمريكية أو التابعة لـ«حلف الناتو» فى البحر الأسود.
«قناة إسطنبول» يقدمها الحزب الحاكم باعتبارها حلًا اقتصاديًا سحريًا لكل مشكلات تركيا المزمنة، على اعتبار أن هذا المشروع يمنح تركيا أفضلية تنافسية كبيرة فى تجارة النقل الدولى، حيث يمر أكثر من ٧٥٪ منها عبر البحار، فى الوقت الذى تعانى فيه قناة البوسفور كثافة ملاحية قصوى، تحرمها من أى قدرة على التطوير أو التوسع، لاسيما وهى بالفعل الأعلى كثافة على مستوى العالم.
الدراسات المنشورة بتركيا حول القناة الجديدة قدرت الدخل المتوقع من المشروع سنويًا بنحو ٨ مليارات دولار، فى إشارة إلى أن عائدات القناة الجديدة ستغطى خلال عامين فقط تكاليف المشروع، وفقًا لرسوم تفرضها تركيا بواقع «٥.٥ دولار» على كل طن من البضائع وحمولات السفن التى ينتظر أن تعبرها يوميًا.
وتبلغ قيمة المشروع «٢٥ مليار دولار»، ١٥ مليارًا منها للأعمال الهندسية الخاصة بالحفر، و١٠ مخصصة للإنشاءات اللوجستية المجاورة لها، وعلى هذا النحو تكون تركيا حققت فائدة مزدوجة، بامتلاكها قناة جديدة بهذه المواصفات المتطورة، فى الوقت الذى يحول فيه مضيق البوسفور إلى ممر ثانوى كى يخفف من الأعباء البيئية الناتجة عنه فى الوقت الراهن.
ولكن .. الأمر برمته ليس مقتصرًا على الرؤية المطروحة من قبل «العدالة والتنمية»، فهناك معارضة شديدة من أطياف عدة داخل تركيا، تنظر للمشروع بريبة وتشكك واسعين، بل وتذهب لما هو أبعد من ذلك، ففى الوقت الذى يروج فيه عرابو المشروع أن تخفيف العبء الملاحى عن مضيق البوسفور سيقلل من الانبعاثات والمخلفات التى تضر المناطق الأثرية المحيطة بشكل كبير، هناك من يرى أن القناة الجديدة وفق مخططها الهندسى المعلن ستعزل المنطقة الأثرية فى إسطنبول وتحولها إلى جزيرة.
كما ينظرون إلى المشروع باعتباره «كارثة بيئية» محققة، استنادًا إلى أن عمليات الحفر العميق فى المنطقة المخصصة للقناة ستخل بتماسك التربة على جانبى القناة، مما قد يتسبب فى انهيارات أرضية، وزيادة كبيرة فى احتمالية تعرضها للزلازل.
مؤخرًا أطلق رئيس بلدية إسطنبول «أكرم إمام أوغلو» صيحة تحذير، متزعمًا عملية حشد كل الجهات التى أعلنت على استحياء عن معارضتها المشروع، تزامنًا مع الإعلان عن البدء فى عمليات الحفر الأولى يوم ٢٦ يونيو الجارى. أوغلو ومناصروه يرون أن المشروع سيتسبب فى تدمير «بحيرة مرمرة» الشهيرة وإضاعة مستقبل مدينة إسطنبول، وأن دعم بعض الأطراف السياسية التركية مشروع القناة يرتبط برغبة الحكومة فى بناء مدن جديدة فى محيط مدينة إسطنبول، بغرض تغيير الخريطة الكلية للواقع التراثى، الذى يعد جوهرة النشاط السياحى للمنطقة ولتركيا برمتها.
فى زخم هذا الاحتشاد المضاد خرج العديد من الدراسات الأكاديمية التركية يحذر بشدة من تهديد وضرر بيئى واسع النطاق، له علاقة بمخزون المياه الجوفية، خاصة أن المشروع وفق الدراسات سيدفع مياه شاطئ البحر الأسود المحملة بالتلوث إلى إصابة النظام البيئى لبحر مرمرة فى مقتل، وفقدان حياة بحرية فريدة قبالة شواطئ المدينة، فضلًا عن تهديد آخر غابات متبقية من المدينة القديمة، التى تأسست قبل آلاف الأعوام، كما ستؤدى الأضرار التى ستلحق بالمياه الجوفية فى إسطنبول إلى تدمير الأراضى الخصبة فى منطقة «تراقيا» الشمالية بشكل كبير، مما سيؤدى أيضًا إلى تدهور سريع فى أجزاء متاخمة من الأراضى الزراعية، التى تبلغ مساحتها «٦٦ ألف هكتار»، ويقع معظمها فى الجزء الشمالى من مدينة إسطنبول.
ولا يقف الأمر بالطبع على الجانب البيئى، على أهميته، لكن التحفظات الاقتصادية تبدو أكثر شراسة فى ظل أزمة اقتصادية مركبة، مما يجعل القدرة على توفير الاعتمادات الهائلة المطلوبة لإنجاز المشروع محل تساؤل وتشكك كبيرين فى قدرة النظام الحالى على توفيرها، وأى من القطاعات البديلة الذى سيدخل إلى دائرة التهديد بدفعه إلى الاختلال، الذى تبدو ملامحه مطبقة بقسوة على خناق العديد منها، حيث تشكل الصورة العامة التى لا تخطئها عين.