الدروس المستفادة من الحرب على غزة «2»
نستكمل اليومَ الجزء الثانى من الورقة البحثية التى نشرها مركز «بيجين- السادات»، بعنوان «الدروس المستفادة من الحرب على غزة»، لكاتبها اللواء «احتياط» جيرشون هاكوهين، حيث وقفنا فى جزئها الأول على التسمية التى اعتمدها اللواء هاكوهين باعتبار هذه الجولة الأخيرة التى استغرقت «١١ يومًا» من الحروب التى خاضتها إسرائيل ضد المكونات الفلسطينية، وحُدد ميدانها بقطاع غزة وحصر العدو فيها «وفق تسميته» بحركة حماس، فضلًا عن تناوله العابر بعض أحداث مدينة القدس وفق رواية عكسية للأحداث، وإلقاء اللوم على حماس باعتبارها تسببت فى «أعمال شغب» فى المدن المختلطة داخل أراضى دولة إسرائيل.
لكن يبقى أهم ما جاء بالجزء الأول، هو المتعلق بالمهددات المستحدثة لنظرية الأمن الإسرائيلى، التى سماها الجنرال الذى قضى فى صفوف الجيش الإسرائيلى ٤٢ عامًا، بمفهوم «بن جوريون الأمنى»، وهو مفهوم فى جوهره يعتمد على اعتبارين رئيسيين، أولهما الاعتماد على فترة تحذير كافية تسمح للقوات الإسرائيلية بمجابهة المهددات من موقع جاهزية، يتيح لها خريطة ارتكاز وفاعلية دفاعية نشطة تقلص حجم خسائرها لأدنى مستوى ممكن.
والاعتبار الثانى يعتمد كليًا على التفوق الاستخباراتى فى مقابل الخصوم، حيث يبدو وثيق الصلة بالاعتبار الأول على نحو كبير، لكنه فى الأهم يتعلق أيضًا بكفاءة الشق الهجومى الذى سيعزز الانخراط من أجل تحقيق مكاسب خاطفة، يمكن قياسها بوضوح فى الميزان النهائى للعمليات، وتعد المفتاح الأبرز فى تحقيق «الردع» الذى تستهدفه إسرائيل فى مواجهة الخصوم.
الجزء الثانى للورقة ينظر من خلاله اللواء جيرشون هاكوهين إلى الإنجازات الدفاعية للجيش الإسرائيلى فى مواجهة حماس باعتبارها رائدة، ويوصى بعدم الاستخفاف بها.
ووفق ما كتبه أن الجدير بالإشارة إليه أيضًا أن إنجازات البحرية الإسرائيلية تمثلت فى إحباط كل الخطوات الهجومية من قبل بحرية حماس، وإنجازات سلاح الجو هى الأخرى نجحت فى إسقاط طائرات دون طيار تابعة لحماس، وضرب المثل فى ذلك بالطائرة دون طيار «مفخخة» كانت موجهة نحو منصة الغاز «تمار».
كما حدد حجم الإنجاز الدفاعى البرى على حدود غزة كونه أعاق تسلل فرق حماس الخاصة «الكوماندوز».
ومن الجدير بالثناء أيضًا- وفق ما ذكره نصًا- أن الجهود المبذولة لمواجهة إطلاق الصواريخ وأداء بطاريات القبة الحديدية، يمكن إضافتها إلى الإنجازات فى المجال الدفاعى. وربما ذهب الكاتب إلى هذا الثناء كنوع من ترميم حجم الإخفاق الذى لم يكن خافيًا على أحد، على الأقل فيما يخص القبة الحديدية وأدائها، والتكتيك الذى انتهجته فصائل المقاومة بعد دراستها إمكانيات القبة وآليات عملها، لتتمكن من إحداث اختراق ملموس لها بوصول عشرات الصواريخ إلى مدن إسرائيلية، يفترض أنها محمية بهذه المنظومة وفق ما أعلنه الجيش الإسرائيلى فى أكثر من موضع سابقًا.
وقد انتقلت الورقة ذاتها فى فقرة تلى ذلك الثناء «العرضى» مباشرة، لتبث العديد من المخاوف التى لم يكن اللواء هاكوهين وحده الذى يتحدث بشأنها باعتبارها من دروس الحرب الأخيرة.
فهو يحدد حديثه بأنه يرى من خلال نطاق أوسع أن التهديد الذى تشكله حماس من خلال القوة النارية الصاروخية التى وجهتها ضد المدن الإسرائيلية، يجب أن يدق أجراس التحذير بشأن انسحاب إسرائيلى محتمل من الضفة الغربية. حيث يلفت النظر إلى أن الدولة الفلسطينية على حدود عام ١٩٦٧ لن تكون منزوعة السلاح، بل ستصبح لديها القدرة على أن تصبح تهديدًا أكبر بكثير من قطاع غزة.
إن حجم الإنتاج الذاتى للسلاح الذى ظهر مؤخرًا فى ظل حماس والجهاد الإسلامى، يكشف عن فجوة وَهْم نزع السلاح، حيث جرى تنفيذ معظم هذا الإنتاج الذاتى «للسلاح» بالآلات المدنية والمواد الخام المتداولة بحرية.
فهو يرى أنه لا توجد وسيلة لمنع دولة من امتلاك آلات مخرطة محوسبة، أو أنابيب حديدية، أو مادة الفوسفات، رغم أن الحقيقة فى الوقت الحالى، لا يوجد إنتاج للصواريخ فى المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين فى الضفة الغربية، إلا أنه ينبع بالكامل من المراقبة والوقاية التى أتاحتها قوات جيش الدفاع الإسرائيلى، فضلًا عن وجود مجتمعات مدنية إسرائيلية فى عمق تلك الأراضى. وهو يشير هنا إلى التجمعات «الاستيطانية» باعتبارها مكونًا مدنيًا، رغم أن السطور السابقة تشير بطرف خفى إلى قدرتها على المراقبة، واحتواء الأحداث الجارية وسطهم داخل مدن وأراضى الضفة الممزقة إلى كانتونات يسهل الوقوف على ما يجرى فيها.
ووفق هذا الطرح يصل إلى نتيجة مفادها أن نجاح القيادة المركزية خلال هذه الجولة فى احتواء النشاط الإرهابى الشعبى، والعنف فى مناطق الضفة الغربية الواقعة تحت رعايتها، يدل على أن المطالبة باستمرار الوجود الإسرائيلى فى تلك المناطق «الضفة الغربية» له ما يبرره تكتيكيًا، وعمومًا فعندما يقارن المرء الموارد والجهود المطلوبة لتأمين السهل الساحلى لإسرائيل، الذى تم بناؤه حول نشاط جيش الدفاع الإسرائيلى فى الضفة الغربية، ودعم المجتمعات الإسرائيلية هناك بما يجب أن تستثمره مؤسسة الدفاع فى قطاع غزة- يتضح أن الوضع الحالى فى الضفة الغربية أكثر فاعلية واقتصادية وملاءمة.
ثم يعرض اللواء بعد هذا الاستخلاص، أخطر وأهم ما جاء بورقته اللافتة من خلال إطلاقه تحذيرًا بالغ الدلالة، حيث اعتبر أولئك الذين يطالبون بمزيد من الانسحابات الإسرائيلية، التى تنطوى على اقتلاع المجتمعات المحلية والتراجع إلى خط الجدار الفاصل، إنما يتحدثون من منطلقين، أولهما أن الانسحاب إلى خطوط ١٩٦٧ مع تعديلات طفيفة، سيُنهى حالة «الاحتلال» ويمنح إسرائيل الشرعية الدولية، وستحظى تلقائيًا بالدعم للعمل العسكرى إذا قوضت الدولة الفلسطينية أمنها. والثانى أن الجيش الإسرائيلى بتفوقه الدائم يمكنه أن يزيل أى تهديد أمنى فى وقت قصير، وبسعر معقول. لكن اللواء هاكوهين يرفض بالطبع هذه المنطلقات، ويضرب المثل بفك الارتباط أحادى الجانب الذى قامت به إسرائيل عام ٢٠٠٥ مع قطاع غزة، حيث تلقوا وعدًا حينها بأن يدعم المجتمع الدولى أى رد عسكرى إسرائيلى على الهجمات الإرهابية من القطاع، وهو ما لم يتحقق أبدًا. لذلك فهو يرى أن هذا النموذج يلقى بظلال من الشك على صحة تلك المقدمات المتعلقة بالتفكير فى الانسحاب. بل يذهب إلى التحذير صراحة من اعتبار دعم الرئيس بايدن حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها أمرًا مفروغًا منه، فالمرجح أنه سيتعين دفع ثمن الدعم الأمريكى الذى حصل عليه نتنياهو لمدة ١٠ أيام من الحرب.
إسرائيل ترى أن الإدارة الأمريكية تدرك جيدًا أن الفشل فى دعم إسرائيل أثناء تعرضها لهجوم إرهابى من غزة، سيجعل من الصعب مطالبة إسرائيل بالموافقة على الانسحاب المستقبلى من الضفة الغربية، ومع ذلك، منعت الإدارة الأمريكية إسرائيل من مواصلة هجومها حتى تركع حماس على ركبتيها.
وعليه ووفق ما نتج عن أحداث الجولة الأخيرة، التى أظهرت محدودية قوة الجيش الإسرائيلى، فى حالة نشوب حرب متعددة الميادين «بما فى ذلك الحرب المحلية»، وهى حالة تتزايد احتمالية حدوثها بعد النظر إلى الانسحابات الإضافية، باعتبارها ستشكل خطرًا وجوديًا على إسرائيل، رغم التفوق العملياتى للجيش الإسرائيلى- إذا كان عليه القتال فى الساحة الشمالية أيضًا، حينها لن يكون قادرًا على الدفاع عن الشريط الساحلى الضيق من حدود ما قبل عام ١٩٦٧.