في ذكراه.. فرج فودة: لا أفهم إطلاقا منطق الإيمان بالعصا والسيف
قبل 29 عاما استشهد المفكر فرج فودة في مثل هذا اليوم من العام 1992 علي يد تكفيري أمي لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه تعرض لغسيل الدماغ ممن يسمون بالدعاة والشيوخ، تحديدا علي إثر المناظرة التاريخية الشهيرة التي جرت في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفيها حرض محمد عمارة ومحمد الغزالي ومأمون الهضيبي علي اغتيال فرج فودة بعدما كفروه وأحلوا دمه.
وفي مقال له نشر بمجلة "التنوير" المصرية يتناول فرج فودة بعض الأفكار وكتابها ممن يحسبون علي التيار الإسلامي الوسطي، ولكنهم في حقيقة الأمر لا يختلفون شيئا عن التكفيريين. ففي المقال المعنون بــ"علاء حامد وحرية الاعتقاد". وفي نص المقال يقول فرج فودة: ليوميين متتاليين فتح الأستاذ أحمد بهجت النار في ركنه اليومي "صندوق الدنيا" علي الكاتب علاء حامد وكتابه "مسافة في عقل رجل.. محاكمة الإله"، وحجة الأستاذ بهجت في هجومه أن ما كتبه الأستاذ علاء في تقديره حافل بالإلحاد والخروج علي الدين.
والحقيقة أن ما كتبه الأستاذ أحمد بهجت أفزعني أشد الفزع، فقد كنت أتصور أن تفسيره الإنساني والفني والفكري سوف يعصمه من المطالبة بالحجر علي الكتاب أو عقاب الكاتب، فليؤمن علاء أو لا يؤمن فهذا شأنه، وليكتب مؤمنا أو ملحدا فهذا حقه (ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)، ولو كتب ملحدا فهناك الآلاف ممن يكتبون عن الإيمان ويدعون إليه، وإلا فليوضح لي ماذا يفهم من حرية الفكر والاعتقاد؟، علي أنه حرية الانتماء لمذهب الشافعي أو المذهب المالكي أو المذهب الحنفي أو المذهب الحنبلي؟ وهل يتصور أن مصر وقعت علي ميثاق حقوق الإنسان من باب "الفتاكة" والضحك علي العالم؟ وهل يا تري قد أهتز إيمانه بحساب الآخرة فأراد أن يضمن عقاب الدنيا؟، وأين ذهبت عنتريات ما ينطق به؟ وهو قوله الشهير :"قد اختلف معك في الرأي لكني علي استعداد لدفع "وحياتك" ثمنا للدفاع عن رأيك".
ويمضي فرج فودة في مقاله متسائلا: الحقيقة إنني لا أفهم حرية الإيمان دون حرية الإلحاد، ولا أفهم حرية التعبير دون أن تكون مطلقة بغير قيد، منطلقة بغير حد، ولا أفهم إطلاقا منطق الإيمان بالعصا، والاعتقاد بالسيف، وأعتقد وأرجو أن أكون مخطئا، أن ما يدعو إليه الأستاذ بهجت وأمثاله هو جزء من معالم تخلفنا الفكري والحضاري.
ما شأن الأزهر بما يكتبه علاء، وما يكتبه غيره؟ أقصي ما يفعله الأزهر في تقديري هو أن يرد ويوضح وليس له ولن يكون أن يمنع أو يقمع أو يحاكم أو يدعو للعقاب. من حق الجميع أن يتسائل وأن يجيب. هل هناك دستور يحترم الرأي، إننا وضعناه لكي نمثل علي العالم إننا متحضرون، وأن لنا دساتير شأننا شأن الدول المتقدمة، وأن لنا من حضارة العالم نصيبا؟ والله يعلم إنا نحمل في وجداننا للحضارة والتقدم ألد الخصام. هل ما نص عليه الدستور من حرية الفكر والاعتقاد نص للزينة؟ أو لأرفف المكتبات، أم أنه نص قصد منه أن يحترم، ووضع لكي يطاع؟ وكتب لكي يلقم أعداء الحرية حجرا؟ هل نحن متحضرون حقا ؟ وهل نحن أحرار حقا؟، وهل مازالت في ضمائرنا مساحة تسمح لمن يختلفون معنا بالتعبير؟ أم أن الحقيقة هي ما نعتقد؟ ولا شئ سواه، والصحيح هو ما نؤمن به ولا صحيح غيره؟.
ويتابع فرج فودة موضحا: ليس دفاعا عن الإلحاد، لكنه دفاع عن حرية الكاتب في أن يؤمن أو يلحد، فهكذا أفهم الحرية، وبغير هذا لن يكون لها من اسمها نصيب. ليس دفاعا عن علاء الذي لم ألتق به، ولم أقرأ له، وإنما دفاعا عن حق علاء في أن يكتب وأن يقول ما يشاء، وحق غيره في أن يرد عليه بما يشاء.
ألم يقرأ الأستاذ بهجت في كتب التراث حوار أبي حنيفة مع الملحد، وكيف قال له أبو حنيفة أنه حضر إليه بعد أن قطعت الشجرة نفسها، ثم صنعت من خشبها ألواحا دون تدخل من أحد، ثم انتظمت الألواح إلي بعضها فصنعت زورقا، فلما تعجب الملحد أجابه أبو حنيفة، كيف لا تصدق أن زورقا يتشكل بغير صانع، وتصدق أن كونا مثل هذا لم يصنعه صانع.
خلف هذه القصة حقيقة لم يدركها الكثيرون، وهي أنه كان من حق الملحد أن يعلن رأيه ويعرض حجته، ويحاور أبا حنيفة، ويحاوره أبو حنيفة، ولو عاش هذا الملحد في زمنا لما سمعه أحد ولما حاوره أحد، ولوجد سبيله إلي صندوق الدنيا محملا باللعنات والإتهامات والمطالبة برأسه. وإذا كان أبو حنيفة لا يصلح دليلا وحده علي سماحة الدين الذي يدعو البعض إلي العنف باسمه، وإلي القيد استنادا إليه، ألا يصلح الرسول نموذجا ؟ لقد أرتد عبد الله بن أبي سرح، وهو أحد كتاب الوحي، وهرب من المدينة إلي مكة، وأدعي أنه شارك مع الرسول في (وضع) القرآن، وعندما تم فتح مكة أمر الرسول بقتل البعض ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وكان منهم بالطبع عبد الله بن أبي سرح، فتشفع له عثمان، فعفا عنه الرسول، ثم أصبح واليا علي مصر بعد ذلك في عهد عثمان.
لو كانت الردة التي يتشدقون بعقابها حدا حقا لما قبل الرسول شفاعة عثمان، لأنه لا شفاعة في حد. إفهموا الإسلام أولا، وافهموا العصر واستوعبوه ثانيا، وافهموا الحضارة حتي نلحق بركابها، ولا تزعجونا بدعاوي التخلف والردة الحضارية، ولا تفسحوا صفحات الصحف للنيابة الإدارية التي أعلنت أنها أرسلت الكتاب للأزهر لأخذ رأيه فيه، باعتبار أن ما ورد فيه يمثل خروجا علي مقتضيات العمل الوظيفي في مصلحة الضرائب وخروجا علي النظام العام.
أي فهم هذا وأي خروج هذا، وأي نظام عام هذا الذي يحجر علي الفكر والمفكرين، وأي ارتباط هذا بين العمل الضرائبي والإيمان في القلوب. لقد كان ممكنا أن لا أكتب وكفاني ما أنا فيه من معارك، بيد أني مؤمن بأن السعي لحضارة الوطن وتقدمه واجب وطني يليق بالمفكر الحر، وليكن ما يكون، فإما أن نكون أحرارا متحضرين وإما أن نصمت أمام أنصار القيد وأعداء الحرية فنزداد تخلفا علي تخلف، وقيدا علي قيد.