شكرًا.. رجال الظل
اعتاد رجال الظل أن يعملوا دون أن يشير إليهم أحد، يحافظون على سرية العمل فينأون بأنفسهم عن المحافل والاجتماعيات ويرتضون بدورهم القائم على العمل في صمت ودون انتظار مقابل أو كلمة إشادة أو حتى حفل تكريم، هم صقور مصر وعيونها الساهرة وترمومتر يطمئن أهلها في الداخل على ما يجري حولهم في الخارج، ويؤثر على مقدرات الوطن وأمانه، أداء رفيع وإيثار كبير وإنكار للذات حكمت عليهم به طبيعة عملهم ومقتضيات وظيفتهم.
أعرف صديقًا مقربًا توفي له شقيق قبل سنوات وقمنا بواجب العزاء وشاركنا في مراسم الدفن، وبعد أسبوع اتصلت لأطمئن عليه فإذا بهاتفه مغلق، هنا وجدت من واجبي أن أتصل على تليفون منزله ليطمئن قلبي، فإذا بالسيدة حرمه تقول لي لقد توفي شقيقه واضطر للسفر إلى قريته في صعيد مصر لإتمام مراسم الدفن وتلقي العزاء.
قلت لها هذه عادات بالية فما كان عليه وأسرته أن يتكبدوا عناءً فوق مشقة تلقي العزاء الذي تم هنا في القاهرة خصوصًا وأنني لاحظت توافد أفواج من بلدياته قاموا بالواجب في دار المناسبات الكبرى هنا بالقاهرة.
صدمتني حرم صديقي بقولها: "هذا ليس شقيقه (س) الذي توفي قبل أسبوع إنه شقيقه (ص) الذي توفي أمس الأول".
هنا عقدت المفاجأة لساني، ليس لوفاة شقيقين في أسبوع واحد، فهذه إرادة الله ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى، ولكن دهشتي كانت أن عرفت أن صديقي الذي هو لي بمنزلة الأخ الشقيق منذ سنوات بعيدة له أخ لا أعرفه ولم أسمع عنه يومًا.
المهم أنني حين عرفت بعودة صديقي من قريته بالصعيد، ذهبت إليه في منزله لأعزيه، ولكنني وبحكم ما بيننا من علاقة ومحبة، عاتبته لأنه أنكر شقيقًا له طوال حياته ولم يذكره لنا يومًا مقارنة بإخوته الآخرين الذين كان يتباهى بهم لأنهم يعملون بسلك القضاء، وقسوت عليه في موقف لا يليق بالعتاب، إذ قلت له: "ما كان عليك أن تنكر شقيقًا لك لمجرد كونه فلاحًا فجميعنا لدينا أقارب من ذوي المناصب والرتب ولدينا غيرهم من متواضعي المكانة، لكن مقامهم رفيع عند خالقهم بأخلاقهم و سلوكياتهم".
فإذا بصديقي يبوح لي بما لم يكن من المتاح له قوله قبل أيام حين كان شقيقه حيًا يرزق، لقد قال لي إن شقيقه الراحل كان واحدًا من صقور مصر وأحد رجال الظل بها، وأنه هو شخصيًا كان ينكر وظيفته، ففي قريتهم كان يقال إنه يعمل موظفًا بالقاهرة وعند معارفهم بالقاهرة كان إخوته إن اضطروا للحديث عنه يروجون إنه شقيقهم الفلاح الدي يقيم بالقرية، بينما هو في معظم الوقت لا يكون إلا في مهام سرية خارجية خدمة للصالح الوطني.
وهنا أدركت قيمة هذه الفئة من أبناء مصر من رجال الظل الذين ظهر دورهم جليًا بتحركات واعية وخطوات مدروسة خلال أزمة الاعتداء الأخير على أهلنا في فلسطين، وما زالوا بعدها يواصلون الليل بالنهار لضمان التهدئة على الأراضي الفلسطينية ويتجهون نحو النجاح في تحقيق المصالحة بين الفصائل كخطوة أولى لتحقيق القضية الفلسطينية أهدافها عما قريب. وبالطبع فإن لرجال الظل أهدافًا وخدمات جليلة يقدمونها للوطن والمواطن في محافل عدة وعلى المستويات كافة ورغم ما يتكبدونه لتحقيق أهدافهم الوطنية فإنهم لا يعلنون عن إنجازاتهم ولا يتباهون بها، فقد قدر عليهم أن يبقوا دائمًا رجال ظل.