الجنة الزائفة
هي The Lala land، والتي تحدث عنها المخرج الاسرائيلي الشاب nimrod eldar في فيلمه the day after im gone، والذي شاهدته ضمن عروض المسابقة المعنية بتشجيع الإنتاجات والإبداعات الشابة في مهرجان منسك السينمائي الدولي في دورته الـ26
في بيلاروسيا.
وكما تحدث المخرج الفلسطيني العالمي الكبير «إيليا سليمان» عن الجنة المبتغاة وحلم بها في فيلمه العالمي الشهير «الجنة الآن»، يتحدث اليوم المخرج الإسرائيلي الشاب عن إسرائيل الحلم والجنة المبتغاة التي حلم بها أهلها ونذروها لتكون جنتهم في قلب الشرق الأوسط، ولكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس!
فالجنة التي يبتغيها الاسرائيليون يستحيل وجودها في الشرق الأوسط.
حالة التفسخ التي عرضها الفيلم تعكس وبجدارة حالة المجتمع الاسرائيلي بالكامل، فالأب في الفيلم، الطبيب الجراح الذي يداوي جراح الحيوانات المفترسة ويفلح في شفائها وينقذها من الموت، يعجز عن حل أزمته مع ابنته المراهقة بعد رحيل أمها.. فالجراح الذي ينجح في غرفة العمليات يفشل في إنقاذ ابنته التي حاولت الانتحار، وفشل كذلك في كسر حاجز الصمت بينهما، أي فشل في التواصل مع أقرب الناس إليه.
من يعالج الحيوانات البرية المفترسة لا يستطيع علاج ابنته أو علاج أمراض مجتمعه المتفسخ الذي يفترس الأبرياء يومياً.. فذئاب ذلك المجتمع تفترس الأبرياء كل يوم، ويعاني الجميع من أمراض العصر بسبب الحروب والتطاحن وفقدان التواصل، وثقافة الخوف التي يعاني منها المجتمع الاسرائيلي، وحالة الهجوم المستمر والدفاع المستمرة في ظل الحرب المشتعلة بين الطرفين.. هكذا هي الحياة الواهمة التي حلم فيها الجميع بالسعادة والثراء.. ودعوا إليها يهود العالم ليأتوا لها من الشتات، ووعدوهم بالجنة والثراء السريع وأنه يوجد دوما مكان للكل، بل وغرفة منفصلة لكل فرد في بيت على أرضه أيا كان لونه أو طبقته أو عرقه، ثم قتل المراهق الاسرائيلي اليهودي الأسمر «solomon» على يد ذات الجندي الذي قتل محمد الدرة في مجتمع تسوده العنصرية والتصنيف وثقافة الغاب القائمة على الدعاية والتضليل والزعم بالمثاليات، وأن الفرد في إسرائيل سيصبح مليونيراً.. فقط عليه أن يأتي إليها وأن يقتنص الفرصة ليحيا سعيداً حتماً ودوماً لأنه في إسرائيل!
تلك الدعاية الزائفة والحلم الوردي ما هو إلا كابوس عبّرت عنه بصدق الأغنية «الأكليشيه» التي غنتها الطفلتان في أحد مشاهد الفيلم، تلك الأغنية التي يلقنونها للصغار في المدارس ليعيشوا الوهم ويلتقطوا الطعم فيأتون للحروب وللنار بأرجلهم، ويعيشون كابوس الحرب، وتحيطهم دوماً ثقافة الخوف وانتظار الموت في أي لحظة.
ورغم ذلك هم مستمرون في صناعة الوهم وتصديره والعيش فيه، ويساعدهم على ذلك، بالطبع، مخدر الدين الذي يلقنه الأصوليون في ذلك المجتمع لأبنائه.. فالأصولية اليهودية لديها المهووسون بها، شأنهم شأن المهووسين دوماً بالحرب والخراب والدمار رغم تشدق الجميع بالسلام والحلم بالعيش الرغيد.
كل تلك المعاني تم التعبير عنها في الفيلم، فشعب إسرائيل يعيش كما عاش شعب بابل، بل ويكرر مأساته.. فالجفاء- غير المبرر- بين أب وابنته لمسناه أيضاً في عائلة والدة الابنة، إذ يعيش كل فرد في واديه الخاص وحلمه الشخصي الذي لا يتحقق.. يحيا الكل في كابوس واحد كبير وقد فقدوا أي تواصل فيما بينهم حتى وإن اجتمعوا على مائدة طعام واحدة.
وأكدت خالة الابنة تلك المعاني في حوار دار بينها وبين الأب عن زوجها الذي يعيش في «اللالالاند»، هذا ما قالته ووصفته نصاً، وأن حملة المقاطعة الدولية لاسرائيل مؤثرة بالفعل وكبدتهم الكثير، وأن الحياة في إسرائيل ليست سهلة، وليست جميلة ولا وردية كما تدعي دعايتهم الكاذبة وآلتهم الإعلامية المضللة.
وينتهي الفيلم تماما كما بدأ.
ويظل الشرخ قائما ويظل الباب موصداً بين الأب وابنته، ويعيش كلاهما في عزلة عن الآخر، تلك العزلة التي ساقها المخرج لتكون معادلا موضوعياً لحال المجتمع الإسرائيلي كله،
فشبابه ضائع مشتت الهوية وتعيس لا يرى نوراً في نهاية النفق، وقد يقدم على إنهاء حياته بالانتحار كما فعلت الابنة.
أما الجيل الثاني فيظل يحلم بإسرائيل الكبرى جنة الشرق الأوسط، ويصدق بل ويصدر تلك الدعاية الإسرائيلية الزائفة محاولاً الوصول للجنة عبر السلاح والقتل وإراقة الدماء والهوس بالهيكل وحائط المبكى، تماماً كما حاول شعب بابل الوصول إلى الله عبر سلم يصعدون به للسماء.
أما جيل الرعيل الأول، وهو جيل الأجداد والجدات، فيعيش الأمر الواقع الذي فرض عليه من البداية، ويكمل ما تبقى له من سنوات على هذه الأرض، آملاً في تحقيق حلمه بأرض الميعاد لأبنائه وأحفاده.
وبالتالي تحيا الأجيال الثلاثة تماماً كشعب بابل الذي فقد بوصلته وفقد التواصل، ويظل الأمل والحلم بالجنة الزائفة بعيد المنال.