ثلاث كلمات حول السد
ثلاث كلمات قفزت إلى ذهنى وأنا أتابع التطورات الأخيرة فى ملف سد النهضة.. «المؤامرة».. و«المزايدة».. و«الصبر».. أما المؤامرة فهى موجودة فى التاريخ، قد لا تكون هى المحرك الرئيسى للتاريخ ولكنها جزء منه، وقد تعرضنا فى تاريخنا لمؤامرات مختلفة، لا تنفى عنا الخطأ والتقصير.. هذه المؤامرات تمت فى الستينيات مثلًا باستخدام دولة كان خطابنا يصفها بأنها «مخلب قط» للاستعمار الغربى.. قد تتغير المسميات، سواء مسميات الدول أو مصطلحات مثل «الاستعمار الغربى».. قد يتبدل اسم الدولة ليصبح «إثيوبيا»، وقد يتبدل مصطلح «الاستعمار الغربى» ليصبح «النفوذ الغربى».. لكن الجوهر يبقى واحدًا.. أن تستخدم دولة كـ«مخلب قط» لاستنزاف دولة أخرى مثل مصر لا يتحملها الغرب وهى قوية.. ولا يستطيع تحمل نتائج كونها ضعيفة.. لذلك يسعى لاستنزافها.. لاستهلاكها، ولإبقائها دائمًا فى حالة «الجمهورية الأولى».. الوعى بالمؤامرة يستدعى الهدوء.. التخطيط.. الصبر.. وهى كلها صفات تتمتع بها القيادة السياسية حاليًا.. لو عُدنا لدرس الستينيات سنجد أن المؤامرة كانت موجودة.. لكن الخطأ أيضًا كان موجودًا.. والخطأ كان فى الاستجابة لمناخ «التسخين».. تصرفات غير محسوبة وغير ناضجة للأشقاء على الجبهة السورية.. وموقف عاطفى مصرى.. ومناخ ساخن فى الشارع لأسباب وطنية ودينية وعاطفية.. كل ذلك قاد إلى قرار غلق المضايق.. ثم جرى ما جرى.. المؤامرة إذن موجودة.. ولكن القضية كيف نتعامل معها؟.. هل نُفشلها كما يفعل خبير مفرقعات مع قنبلة تُدس فى طريق آمن؟.. أم نتعامل معها بطريقة أخرى تؤدى إلى الانفجار؟
إلى جوار «المؤامرة» توجد «المزايدة».. وهى كلمة فصحى مفهومة.. إن لها استعمالًا فى مزادات البيع والشراء.. ولها استعمال آخر فى عالم السياسة.. فى مجال البيع يدخل شخص ما على مجموعة تجار فى مزاد ليرفع السعر، إذا قال واحد إن السعر مائة يقول هو إن السعر مائتان!، وإذا قال تاجر إن السعر ثلاثمائة يقول هو إن السعر خمسمائة، ثم ينسحب فى نهاية المزاد.. إنه ليس تاجرًا حقيقيًا ولكنه «مزايد».. لأنه لا يتحمل تكلفة حقيقية مثل تاجر قديم.. إنه شخص هاوٍ جاء يشعل المزاد ثم ينصرف.. فى عالم السياسة أيضًا هناك «المزايدة»، وهى تعنى فى اللغة «المغالاة وإظهار الحرص أكثر من الآخر».. وهناك أيضًا «زايد عليه فى الكلام»، أى «أراد أن يذهب أبعد منه».. وهكذا فى قضية سد النهضة أيضًا.. سنرى المزايدين.. فإذا قالت الدولة مثلًا إنها ستحل المشكلة بالتفاوض، ظهر من يقول إنه «لا بديل عن الحرب»!.. وإذا بدا من خطاب الدولة أنها تلوح بالحرب بأى سبب، قال المزايد إنه علينا أن ننتظر وأن نتأنى!! وهو فى الحالتين لا يملك المعلومات الكافية للحكم.. ذلك أن قرار الحرب أو عدم الحرب قرار علمى يتخذه خبراء ويخضع لعشرات العوامل وتقديرات المواقف المختلفة، وهو فى النهاية مسئولية القيادة السياسية والعسكرية التى تتحمل المسئولية.
أما الكلمة الثالثة فى الملف فهى «الصبر»، وهو «صبر استراتيجى» له بداية وله نهاية.. وله هدف.. وله منهج.. وهو ما أظن أنه عقيدة الدولة المصرية تجاه سد النهضة.. لكن كل مصرى يعرف أن للصبر حدودًا كما نعرف جميعًا.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.