الحلول الاستباقية.. نهج الإدارة المصرية فى تحييد التحديات الاستراتيجية لقناة السويس
تشكل قناة السويس مصدر فخر المصريين، ليس فقط كونها واحدة من أطول القنوات الصناعية البحرية فى العالم، ولا لدورها المحورى فى التجارة العالمية، بل لأنها من أعمدة الاقتصاد المصرى الرئيسية، فبداية تشكل المصدر الخامس للتدفقات النقدية الأجنبية للداخل بعدما وصلت إيراداتها خلال العام الماضى إلى ٥.٢ مليار دولار، إلى جانب الصادرات، تحويلات المصريين بالخارج، السياحة، والاستثمارات الأجنبية.
وتشكل القناة كذلك أهم مصادر الإيرادات غير الضريبية للموازنة العامة المصرية بعدما تجاوزت تحويلاتها للموازنة العامة للدولة العام الماضى ٣٦ مليار جنيه، كأعلى هيئة مصرية اقتصادية ربحية من بين قريناتها التى تربو على ٥٥، والتى من بين أهمها الهيئة العامة للبترول، هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، سكك حديد مصر، الإذاعة والتليفزيون وغيرها، بل إن تحويلات القناة للموازنة جاءت أعلى من تحويلات قطاع الأعمال والأعمال العام مجتمعين فى العام ذاته، رغم ما كانت تشهده حركة التجارة العالمية من تردٍ طوال العامين السابقين بداية من ٢٠١٩ بسبب ضغوط الحرب التجارية الأمريكية الصينية من ناحية والإجراءات الاحترازية بسبب جائحة كورونا.
على هذه الأهمية تواجه قناة السويس تحديات جسامًا قد تؤثر على دورها الاستراتيجى فى التجارة العالمية، تنبع سواء من المتغيرات المناخية التى ستؤدى فى المستقبل إلى ما يعرف بممر الشمال الذى يربط بين آسيا وأوروبا عن طريق القطب الشمالى، مرورًا بالأراضى الروسية بعدما أصبح ذوبان الجليد فى فصل الصيف يخلق ممرًا ملاحيًا يسمح بعبور الناقلات مع ترتيبات لوجستية معينة معقدة لدرجة ليست بالهينة، أو من المتغيرات السياسية التى أدت إلى مزيد من الاندماج الإسرائيلى فى المنطقة، بما يسمح لها بالقيام بجزء من الدور الذى تقوم به القناة فى الوقت الحالى عن طريق نظام سكك حديد كهربائى سريع يربط ميناء إيلات على البحر الأحمر بميناءى عسقلان وحيفا على البحر الأحمر، وهو تحدٍ تعززه محدودية عمق قناة السويس، يضاف إلى ذلك ما فرضته التطورات الاقتصادية خلال العامين الأخيرين من تحديات تتمثل فى انخفاض سعر الوقود، مما جعل طريق رأس الرجاء الصالح على الرغم من طوله يبدو منافسًا نتيجة انخفاض تكلفة الوقود عند مقارنتها برسوم العبور فى القناة، كذلك تشكل قناة بنما تحديًا رئيسيًا لقناة السويس خصوصًا فى الربط بين الموانئ الصينية وموانئ الساحل الشرقى الأمريكى أو الخط الملاحى شانجهاى-هيوستن، والربط بين الموانئ الآسيوية وتلك الموجودة فى أوروبا الغربية وخصوصًا على الخط الملاحى بوسان- روتردام. آخر التحديات ينبع من القناة ذاتها، حيث افتقدت موانئ القناة الخدمات اللوجستية الأساسية للسفن العابرة وخصوصًا فيما يتعلق بخدمات الحاويات، سواء تخزينها أو تداولها وغيرهما.
يؤثر كل من هذه التحديات منفردًا على الدور الاستراتيجى للقناة بشكل مباشر وبالتالى يخفض من عائداتها ومدخلاتها للاقتصاد المصرى، أما وجودها معًا فيخسف بحق ما للقناة من أهمية ويحولها إلى مجرد مجرى ملاحى موسمى متوسط إلى منخفض الأهمية للاقتصاد العالمى. وانطلاقًا من هذه التحديات وحفاظًا على دور القناة وعوائدها عملت الإدارة المصرية الحالية منذ لحظة وصولها إلى سدة الحكم وحتى قبل استقرار الأوضاع الداخلية بشكل تام على تفكيك هذه التحديات، كلٌّ بمشروع، يعالج الخلل، ويكافئ القناة، بل ويرفعها فوق التحدى.
فبداية أُعلن عن مشروع قناة السويس الجديدة الذى استهدف تقليل زمن الرحلة ووقت الانتظار للعبور بالقناة، بالإضافة إلى توسعتها استباقًا لنتائج إعلان قناة بنما عن البدء فى توسيع وتطوير القناة، بحيث يسمح لها باستيعاب سفن تصل حمولتها إلى ١٠٠ طن بعدما كانت تقف قدراتها الاستيعابية قبل عملية التطوير التى انتهت فى ٢٠١٦ عند حد ٨٠ ألف طن فقط، لذلك جاءت القناة الجديدة لتبقى قناة السويس فى المنافسة مع قناة بنما، خاصة على الخط الملاحى هونج كونج- نيويورك الذى تستغرق رحلته بسرعة ١٥ عقدة نحو ٣٢ يومًا وخمس ساعات عن طريق قناة السويس، بينما ٣١ يومًا وثلاث ساعات عبر قناة بنما، حيث قامت القناة الجديدة بخفض زمن الرحلة بمقدار ست ساعات، بالإضافة إلى أن التوسعة التى جرت فى ذات الوقت مع حفر القناة الجديدة رفعتا من القدرة الاستيعابية للقناة إلى أعلى من ٢٠٠ ألف طن حمولة، الأمر الذى رفع من تنافسية القناة فوق بنما، حيث أصبحت تستوعب ضعف الحمولة القصوى لها، بما يفيد فى النهاية خطوط الشحن، ويوفر لها تكاليف ضخمة تجعلها فورًا تحول نحو قناة السويس.
انعكست التطورات فعلًا على قناة السويس لترتفع مستويات المرور بشكل كبير بلغ فى عام ٢٠١٨ نحو ١٨.١ ألف وفى ٢٠١٩ تقريبًا ١٩ ألف سفينة، بعدما كان قد بلغ فى الفترة من ٢٠١٢ وحتى أغسطس ٢٠١٥ قبل افتتاح القناة، ١٧ ألف سفينة فقط، كذلك ارتفع متوسط الحمولات فى السنوات الأربع السابقة على حفرها من ٩٥٠ مليون طن سنويًا إلى ١.٠٩ مليار طن فى السنوات الأربع التالية لحفرها، كذلك ارتفاع المتوسط اليومى للحمولة العابرة من ٢.٦ مليون طن فى عام ٢٠١٤ إلى ٣.٣ مليون فى ٢٠١٩ وذلك بزيادة نسبتها ٢٥٪ فى المتوسط اليومى، وذلك حتى يناير ٢٠٢٠ قبل أن تضرب الجائحة.
كذلك أعلنت مصر عن مشروع قومى لتحويل قناة السويس إلى محور عالمى لتداول الحاويات عبر إنشاء مناطق لوجستية بطول القناة أهمها عند ميناء العين السخنة وبورسعيد والقنيطرة، تصاحبها مناطق صناعية متخصصة فى صناعات تكنولوجية تدخل فى سلاسل التوريد العالمية من ناحية اعتمادًا على موقعها من القناة وقربها من أوروبا، بحيث توفر فرص عمل للعديد من المصريين وفى ذات الوقت ترفع من عوائد القناة لتحولها إلى مركز لوجستى عالمى يقارع الموانئ العربية والعالمية مثل سنغافورة، الأمر الذى يرفع من إمكانات قناة السويس فى مواجهة ممر الشمال الذى يفتقد إلى أى نوع من الخدمات اللوجستية، بل ويعانى من ارتفاع تكلفة المرور نظرًا لتطلبه كواسح للجليد مع كل قافلة.
ولا يقف المشروع عند هذا الحد، بل يتكامل مع مشروع القطار الكهربائى الذى أُعلن عنه أوائل ٢٠٢١ ليقضى على المشروع الإسرائيلى الذى يقوم فى الأساس اعتمادًا على محدودية عمق قناة السويس بـ٢٤ مترًا، مما لن يسمح معه لناقلات الحاويات أو النفط الضخمة بالعبور فى المستقبل عندما تصل حمولتها إلى ٢٥ ألف حاوية مكافئة لعشرين قدمًا، بحيث يوفر ميناء إيلات رصيفًا أعمق يستطيع أن يستوعب هذه الناقلات الضخمة، لتفرغ حمولتها إلى قطار كهربائى يقوم بنقلها إلى موانئ البحر المتوسط الإسرائيلية لتتسلمها ناقلات أصغر، كل إلى وجهة مختلفة. لذلك جاء مشروع القطار الكهربائى ليستغل الأماكن اللوجستية المزمعة إقامتها فى ميناء العين السخنة والتى تحتوى فى الوقت الحالى على أماكن لتخزين أكثر من مليون حاوية ترتفع فى المستقبل لنحو ١١ مليون حاوية، بحيث تقوم القناة بخفض حمولتها الزائدة فى العين السخنة قبل الدخول إلى قناة السويس ويقوم القطار الكهربائى بنقل هذه الحمولة إلى ميناء العالمين لتستلمها ذات الحاملة فى طريقها إلى أوروبا، وهو ما يقضى تمامًا على المشروع الإسرائيلى.
أخيرًا أظهرت حادثة جنوح السفينة Ever Given تحديًا مركبًا للقناة ينبع من محدودية عرضها فى ذات الوقت الذى تزيد فيه الناقلات طولًا وعرضًا، مما ترتفع معه احتماليات تكرار الحادثة فى المستقبل، لذلك ارتأت الإدارة خلال الأسبوع الجارى استكمال ازدواج القناة بطول خمسين كم أخرى تضاف إلى الـ٣٤ كم السابقة، بحيث توفر فى الوقت الحالى اتجاهًا جديدًا يصل إلى البحيرات المرة وينقل الانتظار إليها بدلًا من الانتظار عند مدخل القناة من خليج السويس، بالإضافة إلى توفير ممر بديل فى حالة تعرض القناة فى هذه المنطقة أو منطقة الـ٣٤ كم السابقة إلى إغلاق مشابه لإغلاق Ever Given، بحيث لا تتعطل القناة ولا الملاحة فيها كُليًا، كما تابعنا خلال الشهر الماضى، وذلك حتى يمكن استكمال الازدواج فى وقت لاحق إذا توفرت لدى القناة الموارد الكافية لذلك ووجدت أهمية اقتصادية له.
خلاصة القول إذن إن الإدارة الحالية تعمل وفق استراتيجية ردود استباقية تهدف إلى تحييد التحديات التى تواجه الأمن القومى المصرى وخصوصًا فيما يتعلق بالشق الاقتصادى منه، كما حدث فى ملف غاز شرق المتوسط، وعلى وجه أكثر خصوصًا فيما يتعلق بقناة السويس التى نالت حتى الوقت الكافى من الحلول الاستباقية ما يشير إلى احتلالها أولوية مطلقة لدى صانع ومتخذ القرار المصرى.
باحث الاقتصاد السياسى بالمركز المصرى
للفكر والدراسات الاستراتيجية