في محبة مصر «7» الروائي العراقي محمد حياوي: في أم الدنيا أنت أقرب إلى الله
شهادات الكتّاب العرب عن مصر ودورها وأهيمتها كرائدة وسباقة وفي مقدمة الدول والشعوب التي أثرت الحياة في مختلف المجالات ليست جديدة، لكن في السطور التالية نعيد التأكيد على هذا ولمعرفة الأجيال الجديدة مكانها في قلوب محبيها، وهذه شهادة للروائي العراقي محمد حياوي يقول فيها :
تُرى ما الذي يكتبه المرء في حب مصر؟ وكيف يمكن لكاتب ما أن يصف مشاعره وهو واقع تحت تأثير تلك البقعة الضاجة بالعواطف والغموض والسحر والخلود والعاطفة؟ هل أتحدث عن أصدقائي من الكتّاب والفنانين والصحفيين فيها؟ أم عن المقاهي وعربات الفول والطعمية والأكباد المشوية ليلًا؟.
في الواقع طالما أردت لكتابتي عن مصر أن تكون عميقة. حسنًا، هذا أمر جيّد بالتأكيد، لكن السؤال الصارم هو كيف سيكون ذلك؟.
ففي كلّ مرّة، عندما أكون في القاهرة، وافتح نافذّة غرفتي المتواضعة في الفندق، ينفتح أمامي منظر المدينة المهولة، تتخلله غابة من المآذن والقباب والأبراج، منظر لا أجده في أيّة عاصمة أو مدينة زرتها، فأغمض عينيّ وأتخيّل هدير النيل الخالد، (الفنادق الرخيصة لا تطلّ على النيل للأسف)، لكن ليس ثمة قوة في الأرض تحول دون تخيلي له وهو يمضي بجلال نحو الشمال، تحت أنف الأهرامات المهيبة التي تنتصب في مواجهة السماء. هنا في هذه المدينة العطوفة، كما في كل مرّة أزورها، استلهمت فكرة روايتي الأخيرة، هنا على هذه الأرض، حيث عاش أوزيروس وسار إبراهيم وموسى وأقام أرسطو، هنا حيث يمثل الخلود الحقيقة الساحقة، حين يمضي الجميع وتتبدل الأجيال وتنمحي الدول وتضمحل الحضارات، ويبقى النيل متدفقًا من دون هوادة والأهرامات على انتصابتها الأبدية، لتعيد تمثلات الزمن، ليس في مقاييس الفيزياء، بل وفق مقاييس التحضر. هنا، وليس بعيدًا عن هنا، في طيبة تحديدًا، وجهت فلورنس نايتنكل، الممرضة الشهيرة والناشطة الروحية والإنسانية، دعوتها إلى الله تستفتيه البدء في مهمتها العظيمة، وعندما عادت بعد أسبوع إلى القاهرة، تقول في مذكراتها، "اتّصل بي الله في الصباح وسألني هل سأفعل الخير وأقيم التقديس له وحده أم سأكرس حياتي لخدمة الآخرين؟" وكانت الرسالة واضحة. ففي هذه الأرض المسكونة بالوجود والخلود، يسهل الاتصال بالسماء. بعبارة أخرى، عندما تكون في مصر، فأنت أقرب إلى الله، حيث تتحد الأصوات ويخامرك شعور واحد هو مزيج من الحماس والعاطفة، الأمر الذي يجعلنا نتذكرها كلّما تطلعنا إلى السماء من أي بقعة في العالم.
وفي المحصلة، فأنّني كلما زرت مصر، أتذكر قصيدة الشاعرة المصرية القديمة وهي تقول، كما لو كانت تجسد لسان حال المصريين: "لا يُدرَك شوقي إلى معانقتك، تعال إلي حتى أرى جمالك، أبي وأمي سيسعدان بلقائك". فأشعر بسعادة البسطاء من المصريين وهم يغدقون عليّ بكرمهم وعطفهم، وكلّما قال لي بائع الفول عبارته العظيمة "متخلي يبيه" أدرك بأن العطاء العظيم يتجسد بما نملك من الرضا. لله درّك يا مصر.