الملل والنحل.. والإسلام المصرى
الإسلام المصري لم يعرف في تاريخه "الملل والنحل" لم تكن تلك الكلمات في قاموسه.. لم تكن تلك هي مفرداته وكان نسيجه اللغوي خاليًا ونظيفًا من كل تلك الانشقاقات والتعقيدات، تسليمه الفطري بالله وبفكره الإيمان كان أبسط من ذلك ولم يكن إيمانه متخمًا أو مكتظًا بتفاصيل فحواها في واقع الأمر فارغا ولا تفيد بل تضر.. فالإيمان كان لديه يقينيًا راسخًا دون إلزام ودون مغالاة ولم يكن معنيًا بالجدل ولا بالتفاصيل والشيطان يكمن دومًا في التفاصيل وفي محاولات زرع الفتن والتفرقة وتقطيع أوصال المعتقد الذي آمن به المصريون بسلاسة ويسر دون تعقيدات أو فذلكات تحولت بمضي الوقت لهلاوس وضلالات سيقت لتمزيق حالة التدين الفطري، ومن ثم الإضرار بلحمتنا الوطنية، بل وضرب الوطن وفكرة الوطنية في الصميم لصالح فكرة الإسلام الأممي والخلافة الإمبريالية التي تريد احتلال العقول والأراضي وجعل من يعيش عليها قطعانا عليهم السمع، لا النظر والطاعة، لا السؤال أو إعمال العقل، وصار النقل والعنعنات هي المرجع والمرجعية! وبتعدد الملل والنحل تعددت المرجعيات وتعدد الفقهاء حتى صار على رأس وفي عقل كل إنسان على هذه الأرض فقيهًا مؤلهًا وصار لكل واحد من هؤلاء ولاة بل عبيد يقدسونهم هم دون الله وصارت كلماته وتأويلاتهم للنصوص واختطافهم النص لمآرب أمرا واقعا معاشا حتى تقوّلوا على نبي الاسلام ذاته وتحدثوا بلسانه عن أشياء مسيئة ولا تليق.
لقد عرف المصري الإسلام كدين وكمعتقد دون الخوض في كل تلك التفاصيل والانشقاقات والاختلافات والخلافات والصراعات والتطاحن والتي نراها في مختلف الملل والنحل، الإسلام المصري إسلام حنيفي الطابع يسير على نهج سيدنا إبراهيم أبوالأنبياء ويتبع سنة النبي ويقدس قبر حفيده ويوالي أهل بيته بمحبة خالصة صادقة متجذرة في القلوب، شديدة الصدق والأصالة، الإسلام المصري لم يعرف في تاريخه الممتد العريق حروب الطوائف، ولم يصنف أبناء الدين الواحد، الإسلام المصري لا توجد فيه فرق وفتن أو تطاحن، الإسلام المصري غير منقسم على نفسه ولا يصنف أتباعه وفقًا للمذهب، فلا يقول إن فلان سني والآخر شيعي، هكذا هو الإسلام المصري أو بعبارة أدق هكذا كان الإسلام المصري قبل الغزو الصحراوي وهبات التصحر التي اقتلعت نضارة القلب الأخضراني فصار المصري اليوم في الأغلب عبوسًا جهولًا كلما ظن أو اعتقد أنه تعمق في الدين وتبحر فيه!
المسلم المصري كان يسير على نهج وسنة النبي ويقدس قبر الحسين دون أن يصنف نفسه سنيًا أو يعرف معنى كلمة (شيعي) وهو من الموالين المحبين للنبي وآل البيت، أي أنه يتبع المذهب السني رسميًا ويوالي أهل بيت النبي في موروثه الشعبي، وقال الإمام الشافعي (لئن كان ذنبي حب آل محمد.. فلذلك ذنب لست عنه أتوب هم شفعائي يوم حشري وموقفي.. إذا ما بدت للناظرين خطوب)
وعبر المخرج اللبناني المصري (هنري بركات) عن ذلك الإسلام المصري المتأصل فيه حب الوطن والممزوج بوطنية لا تجارى في فيلمه الأخاذ (في بيتنا رجل) فقد كان في كل بيت مصري رجل طيب مسن، وكان في مصر رجال وطنيون يحبون بلادهم ويحافظون على إناث الوطن.. لم يكن هنالك تحرش أو اغتصاب أو كبت أو زي إسلامي موحد وكأن الإسلام كتيبة أو جيش!
كانت الإناث تتحرك في ظل منظومة مجتمعية آمنة ومحافظة على القيم الإنسانية والأخلاقية بلا يونيفورم ألصقه المرائون بالدين فصار للدين زي وملل ونحل وفرق وجماعات ورغم انعدام الأخلاق في فيلم هنري بركات كانت الأسرة المصرية تصوم في شهر رمضان وكان الأب والأم يصليان ويقرآن القرآن وتذهب الفتيات للمدرسة وللجامعة بزي مناسب دون مغالاة ودون حجاب (غطاء للرأس) وكان الجميع يعيش حياة عادية مسالمة غير صاخبة ولا ضاجة وبلا نزاعات أو حوارات عقيمة ودون هواجس أو هلاوس تساق دومًا لتسوق القطيع بعد إرهابه بترهيبه وترغيبه.
ولكن صار التدين اليوم تجارة وحرفة واصطناعا وعرضا خارجيا وزيا ويونيفورم وعملية غسيل للعقول، وعبر عن ذلك أيضًا وببراعة عملان في شهر رمضان، مسلسل (الاختيار) في جزئه الثاني والذي تناول مرحلة معقدة وشديدة الخطورة من تاريخ البلاد بعد اسقاط حكم المرشد والاطاحة بدوبليره الذي صار في غفلة من الزمن رئيسًا لأعرق أمة في تاريخ الكون بل وصار رمزاً وحملت صوره في تجمع مسلح اعتصم فيه أناس ضد الشرعية وضد فكرة الوطن وفكرة المواطنة، ونجح إلى حين هؤلاء الخارجون على القانون في تجميع قطعان من البشر منهم الساذج والبريء ومنهم المغرض والكاره والممول، وتجولت الكاميرا داخل دهاليز ذلك السرداب المظلم لنلمس عتو وكذب وبهتان من خطط ودبر لذلك الاعتصام الآثم حتى نجحت الدولة المصرية في تفريق هؤلاء، وحدث تبادل لإطلاق النار بدأه المسلحون المنقلبون على شرعية ثورة ٣٠ يونيو بسلاحهم العشوائي ولا يفل السلاح إلا السلاح، وانتصر السلاح المقنن (سلاح الدولة) على ذلك السلاح العشوائي.
فالدولة تحتكر القوة في كل دساتير العالم ولم يحدث في تاريخ العالم أيضًا أن انتصرت جماعة على دولة ومصر ليست مجرد دولة، بل أمة يؤرخ لعمرها بعمر النور في الدنيا وعمر النور في الدنيا يؤرخ له بعمر النيل.
العمل الثاني وهو أيضًا عمل مهم وجاد جيد الصنع ومتقن حاول رصد محاولات التسلل للشخصية المصرية واختراقها بالتراكم على مدار ٤٠ عاما، أي منذ اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات على أيادي التكفيريين وتسلل هؤلاء وزرع بعضهم بيننا فاختلط الحابل بالنابل وصار الاحتقان والتطاحن هو سيد المشهد ليس فقط في مصر، بل في الشرق الأوسط كله وخلق شرق أوسط جديد تمت أسلمته سياسيًا وتديين شعوبه بالدين العرضي الشكلاني حتى وصلنا لداعش ومارس أهلها الذبح فذبحوا وحرقوا هنا وهناك تمامًا كأجدادهم الخلفاء العثمانيين الذين ارتكبوا مذابح ومخططات إبادة في حق الأرمن والسريان ولولا يقظة جيش مصر وإدراك الإدارة السياسية ضرورة الاستيقاظ وإدراك اللحظة الحاسمة لاستمر نزيف الدم وغسل العقول وبالتالي سقط مخطط الشرق الأوسط الجديد وفشلت الفوضى الخلاقة وما ينقصنا الآن سوى استعادة الروح المصرية وعودة الشخصية المصرية لعمقها وثرائها وتنوعها ليعود الإسلام لمصر كما كان حنيفًا سلساً بلا بغضاء ولا تباغض، فمصر تمصر كل شيء على أرضها، مصرت مصر غزاتها ومن عاش على أرضها من الأجانب والعرب وأضفت من روحها ورحابتها على الإسلام فكان الإسلام المصري نسخة سمحة نحلم بتصديرها للعالم الإسلامي، كما كانت تصدر مصر كسوة الكعبة لبلاد الكعبة التي تضم قبر النبي ونزل فيها القرآن في شهر رمضان نزل هنالك ليقرأ هنا.
ولنا حديث آخر عن مدرسة التلاوة المصرية وهى جزء أصيل ولا يتجزأ من نسخة الإسلام المصري الحنيفي الرحيب.