إنهم السادة يا سادة.. "3" الإمام مالك
هو شيخ الإسلام وإمام دار الهجرة وحجة الأمة وفقيهها وسيد من سادات أئمتها، وهو القائل: "ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب"، والقائل: "من أحب أن تفتح له فرجة في قلبه فليكن عمله في السر أفضل منه في العلانية"، والقائل أيضًا: "عليك بمجالسة من يزيد في علمك قوله ويدعوك إلى الآخرة فعله" وهو الذي ينصح بقوله: "الزهد في الدنيا طيب المكسب وقصر الأمل إن كان بغيك منها ما يكفيك فأقل عيشها يغنيك وما قل وكفى خير مما كثر وألهى".
ولد الإمام مالك في أسرة اشتغلت بجمع الحديث النبوي الشريف وكأي فتى في فترة الصبا اشتغل مالك بما يلهيه عن تلقي العلم وحدث يومًا أن سأل والده في مسألة فقهية فأصاب أخوه النضر الجواب بينما أخطأ مالك، فقال له أبوه: "ألهتك الحمام عن طلب العلم"، فقد كان من هواة تربية الحمام وكانت هذه نقطة فاصلة في مسيرة الإمام مالك إذ تفرغ بعدها لتلقي العلم.
فقال لأمه إنه يريد أن يذهب فيكتب العلم فألبسته أحسن الثياب وشجعته على ذلك، وتلقى مالك العلم على يد كبار علماء عصره أمثال بن هرمز، ربيعة الرأي، سعيد بن المسيب وغيرهم، وبرع مالك في حفظ الحديث الشريف وتدوينه حتى إنه كتب نحو مائة ألف حديث كما تفوق في علم الفلك والأدب وعلم الكلام علاوة على تجويد القرآن الكريم وتفسيره.
شهد له سبعون شيخًا من أهل العلم بأنه موضع للإفتاء، فاتخذ لنفسه مجلس علم في المسجد النبوي، اشتهر عنه قوله "لا أدري" تهيبًا من الفتوى وخوفًا من الخطأ حتى إنه قال: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فأنظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"، أقام الإمام مالك مذهبه الفقهي على أصول شرعية أهمها القرآن والسنة والإجماع والقياس والاستحسان وعمل أهل المدينة وأقوال الصحابة وسد الذرائع.
لم تمر حياة الإمام مالك دون فتنة وابتلاء فقد كان فقيرًا حتى أنه باع أخشاب سقف بيته في سبيل العلم ورغم ابتعاده عن الثورات والتحريض عليها والفتن والخوض فيها تعرض للفتنة، ففي عهد الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور كان الإمام يحدث بحديث نبوي نصه: "ليس على مستكره طلاق"، فاستغل أعداء المنصور هذا الحديث ليبطلوا بيعة المنصور وتصادف أن كان هذا وقت خروج محمد النفس الزكية على خلافة العباسيين فطلب من الإمام ألا يحدث الناس بهذا الحديث، ثم دسوا إليه من يسأله عنه فلم يحجب علمه وحدث بالحديث أمام الناس فضرب بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفاه واختلفت الروايات فيمن أنزل المحنة بالإمام مالك فمن قائل إنه المنصور نفسه ومن قائل إنه جعفر بن سليمان والي المدينة.
أثار ما حدث لإمام المدينة مالك بن أنس سخط أهلها على بني العباس وولاتهم ولزم الإمام مجلسه بعد المحنة لا يحرض ولا يدعو إلى فساد، فلما جاء المنصور للحج أرسل إلى الإمام مالك يطلب منه العفو ويعتذر إليه قائلا: "والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ولا علمته، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم وإني أخالك أمانًا لهم من عذاب ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة فإنهم أسرع الناس إلى الفتن".
اشتهر الإمام مالك بالفراسة والهيبة والوقار وكان موضع إجلال تلاميذه والحكام أيضًا، يروى أن الخليفة المهدي دعاه وقد ازدحم الناس في مجلس الخليفة ولم يبق موضع، فلما حضر مالك تنحى الناس له حتى وصل إلى الخليفة فتنحى المهدي لمالك عن بعض مجلسه إذ رفع إحدى رجليه ليفسح للإمام مالك المجلس حتى قال أحدهم عنه: "لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان".
وكان يعتني شديد العناية بملابسه فلا يرتدي إلا أجود وأغلى وأجمل الثياب إذ كان يرى بذلك إعظام العلم ورفعة العلماء، وفي هذا يقول: "إن مروءة العالم أن يختار الثوب الحسن يرتديه ويظهر به وإنه لا ينبغي أن تراه العيون إلا بكامل لبسه حتى العمامة الجيدة".
وضع الإمام مالك عددا من الكتب لعل أشهرها هو الموطأ الذي يعتبر أشهر كتب الحديث وقد اجتمع على تقديمه وتفضيله وروايته الموافق والمخالف - فيما يقول القاضي عياض - وقد أثنى كبار العلماء بما فيهم الإمام الشافعي على الموطأ، إذ يقول: "ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله عز وجل أنفع من موطأ مالك" وقال عن الإمام مالك: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم ومالك حجة الله على خلقه بعد التابعين".