عبد الرحيم طايع يكتب.. المكفِّرون ونوال السعداوي
لقيت السيدة نوال السعداوي ربها عن 90 عاما بعد رحلة طويلة شاقة حافلة بالنضال الحقوقي (حقوق المرأة، وحقوق الإنسان عموما) تضمنت رحلتها جملة طويلة من الأعمال الفكرية والأدبية (40 كتابا تنوعت بين الفكر والأدب) آفاقها حرية الإنسان المرتبطة بحرية الوطن على مستويات عدة منها الثقافي والسياسي والاجتماعي، من أشهر تلك الأعمال: مذكرات طبيبة (أول أعمالها- رواية صدرت عام 1960) والمرأة والجنس (صدر عام 1970) والوجه العاري للمرأة العربية (صدر عام 1977) ومذكراتي في سجن النساء (صدر عام 1982، وتمت ترجمته إلى الإنجليزية والفرنسية) وسقوط الإمام (رواية، تمت ترجمتها إلى أربع عشرة لغة، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والسويدية والإندونيسية) والإله يقدم استقالته في اجتماع القمة (الكتاب عبارة عن مسرحية، تم حظره ومنع نشره في نوفمبر 2006، وواجهت بسببه قضية رفعها الأزهر في محاكم القاهرة).. رواية زينة الصادرة في 2009 كانت آخر أعمالها تقريبا.
تعرضت خلال رحلتها للسجن والفصل من العمل، ولم تنل تكريما وطنيا من أي نوع، لكنها حازت جوائز دولية رفيعة، من بينها: جائزة الشمال والجنوب من المجلس الأوروبي عام 2004، وجائزة إينانا من بلجيكا عام 2005، وجائزة ستيج داجرمان من السويد عام 2011.. وكانت صورة الغلاف لعدد من المجلات الأوروبية المعتبرة كامرأة عدها الغرب في طليعة السيدات الشرقيات المستنيرات المناديات بالتغيير والإصلاح والتمرد على التقاليد البالية والتحرر من التسلط الذكوري والأبوية السياسية والقيود المرتدية قناع القداسة الدينية..
لها آراؤها الذائعة المثيرة للجدل التي اكتظت بها المطبوعات الدورية وغير الدورية، والمتخصصة وغير المتخصصة، وامتلأت بها الفضائيات التي وجدت في شخصية كشخصيتها مادة استقاطبية لجذب الجماهير الحاشدة، التي مقدار ما يؤرقها الخروج على الثوابت مقدار ما يستهويها الأمر ويحفزها إلى التفاعل ومحاولة اسكتناه الحقيقة من زخم الحوار.
لم تترك السيدة نوال السعداوي، وقد كانت محيطة بما تخوض فيه، خانة خطرة إلا سبحت في بحورها بشجاعة كاملة، تكلمت في قضايا الدين والجنس والسياسة (المحرمات الثلاثة).. وتناولت موضوعات حساسة كالختان وتعدد الزوجات والحجاب والمثلية الجنسية، تناولتها تناولا مغايرا بدون حذر، وهو التناول الذي ألب عليها المجتمع والمتطرفون. ركزت أيضا على الاقتصاد وخطره؛ فحين تصدت لموضوع الحج، مثلا، تصدت له من تلك الزاوية بالذات، وقد ظنها المغرضون والمرجفون تطعن في الشعيرة نفسها بلا رحمة!
أبلغ ما قيل عنها إن صدقها في أفكارها كان أندى من الأفكار نفسها؛ فقد عاشت ما عاشت صادقة، وتحث البشر على الصدق، الذي يتمثل عندها في الحرص على امتلاك الوجه الواحد في السر والعلن، ولم تكن غايتها سوى إيقاظ النائمين في كهوف الماضي السحيق، وتحرير عبيد الموروثات المظلمة من موروثاتهم الثقيلة!
السيدة نوال السعداوي، بالأساس، طبيبة أمراض صدرية وأمراض نفسية، ومن عجيب أن نقابة الأطباء لم تقم بنعيها حين وفاتها بحجة أنها لا تمارس العمل الطبي منذ سنوات بعيدة، وإن كنت أنا لا أعرف قانون النقابة بشأن كهذا الشأن، إلا أنني دائما أرى أن اعتبارات مهمة (أخلاقية وإنسانية) يجب أن تسبق القوانين مهما تكن؛ فروح القانون هي ما ينبغي أن تهم الجميع وليس النص القانوني بصورته الصارمة.
في الحقيقة، لم تمت بموتها حكاية المتربصين بها؛ فمعه استيقظت قوى الشر الكامنة فيهم، في المتشددين الدينين بالأخص، استيقظت من جديد، ففسروها مرة ثانية تفسيرا يوافق أهواءهم المرتابة المريضة.. كفَّروها، وأدخلوها النار، كأنهم الآلهة، وأشاعوا عنها العيب والعار، ولوثوا سمعتها ميتة، بعد أن كانوا لوثوها حية، وأهانوا حتى القبر الذي حوى ضلوعها.. عشرات "اليوتيوبات" البائسة تتحدث عن عقاب الله المضمون لها، وتتحدث، بالارتياب والتوهم المطلقين، عن رفضها الأخير لطقوس المسلمين الذين تنتمي إليهم، أي الغسل والتكفين والصلاة على الميت..
لم يدع المتطرفون شيئا قبيحا إلا نسبوه إليها ولا لفظا فاحشا إلا رموها به، متصورين أنهم بذلك يرضون ربهم ويتبرؤون من خصومه، غير أن الله لا يرضى بإهانة أحد من خلقه بالتأكيد، وهي لم تكن خصما للسماء لمن تفهَّموا ما كانت ترمي إليه بعمق، فما كانت إلا واحدة من مجتهدات جادات في محاولة تغيير مسارات الناس بالتنوير والتثوير، وما كانت سوى مُلهِمَةٍ أنكر قومها إلهامها!