أ.د. الهلالى الشربينى الهلالى يكتب: توجهات السياسة التعليمية في مصر بعد جائحة كوفيد 19 (5/ 7)
السياسة التعليمية والعولمة والهوية: من المعلوم أن الهُويَّة تتشكل من خلال تراكم معرفي طويل ومشترك، وتمثل حجر الأساس في تكوين الأمم ، وأنها لا تتشكل عن طريق قرارات فوقية أو توجيهات عليا سياسية، وذلك على عكس الوحدة الاقتصادية التى لا تتطلب تراكمًا تاريخيًّا ثقافيًا مشتركًا، وينحصر كل ما تحتاجه في مجرد إرادة سياسية وقرارات فوقية وبعض القواعد التنظيمية والتنفيذية.
ويمكن أن نلاحظ ذلك بسهولة من خلال المقارنة بين وحدة أوروبا والوحدة العربية؛ حيث إن الأولى تعتمد بالأساس على تبادل المصالح الاقتصادية، بل وتنطلق منها وتلتزم بها كل الأطراف المشاركة من خلال قرارات سياسية وقواعد تنظيمية وتنفيذية، أما الثانية فتعتمد بالأساس على وحدة اللُّغة والتراكم التاريخى والثقافي المشترك، مع التمحور حول مجرد الفكرة والتغني بها دون النظر للمصالح القومية المشتركة، وذلك لأننا لم نتمكن يومًا من ترجمة وحدتنا الثقافية إلى تكامل وتبادل للمصالح، وربما يعود ذلك لتضارب المصالح القُطرية في عصر العولمة وما فرضته من تحديات وآليات باتت تعصف بكثير من الدول الفقيرة والضعيفة.
ولا شك أن المخاطر والتهديدات والفرص والتحديات التى تفرضها حركة العولمة على الهويَّة الثقافيَّة للدول الضعيفة والفقيرة تنعكس سلبًا وإيجابًا على مفهوم الدولة الوطنية وما يرتبط به من مفاهيم أخرى مثل الاستقلال والإرادة الوطنية؛ فهناك من يُجَمّل العولمة فيراها انتخاب وتجميع لكل القيم الإنسانية النبيلة الموجودة في كل المجتمعات ونشرها على المستوى الإنسانى، وهذا الكلام غير صحيح لأن واقع الحال أن العولمة تعنى القولبة؛ بمعنى قولبة العالم في قالب واحد غربي أو بالأحرى أمريكي، تدور فيه كل الأطراف في فلك المركز الذى يجذبها نحوه ويشدها إليه، بل وإن شئت فقل أنه يربطها به برباط قوي تتكون حلقاته من الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، وأحيانًا التخريب والتدمير. إنه قالب يركز في مركزه على قيم الإنتاج وإنجاز المشروعات القومية في إطار من الخطط الاستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى، وفى أطرافه يركز على نشر قيم الاستهلاك والاستمتاع والكسب السهل والإيقاع السريع، وكذا تضييع الوقت والجهد والمال في صراعات جهوية، أو دينية مذهبية، أو عرقية وقبلية.
وللعولمة آليات ومخالب وأدوات تُستخدم وقت الحاجة ضد المناوئين والمعارضين والرافضين؛ تضم منصات الإعلام الدولية القادرة على هدم مجتمعات في أيام أو ساعات، والشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات التى صارت تتحكم في كل الثروات وعناصر الإنتاج، وكذا مؤتمرات الكبار، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والجنائية الدولية، ومنظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الأجيال الجديدة من الحروب التى تُبث عبر الأقمار الصناعية والقنوات الفضائيَّة، وشبكة الإنترنت، وعبر ممارسات الحياة اليوميَّة، ونظم التدريب والتعليم والتعلم.
ويطرح محمد عابد الجابري في كتابه (مسألة الهُويَّة) سؤالًا جوهريًّا مضمونه: "ما العربي؟" ونضيف سؤالاً موازيًا: وما الأوروبى؟ وقد ذهب الجابري إلى أن الإجابة عن السؤال الأول ترتبط بنوع الوعي الذي يتسم به من يتلقى السؤال ويستقبله، فإذا كان هذا الشخص أوروبيًا تشكل وعيه بواسطة وسائل الإعلام الغربية، فإن وصفه للعربي سيكون: "أنه شخص ينتمي إلى منطقة بها بترول وجماعات إسلامية متطرفة، أو مهاجر يزاحمه العمل"، أما إذا كان متلقي السؤال شخصًا من أصول عربية أرغمته الظروف على الهجرة إلى أوروبا؛ فإنه سيصف العربي بأنه "شخص غير مرغوب فيه يتعرض لممارسات عنصرية"، وعلى الجانب الآخر إذا طرح سؤال ما الأوربي؟ ستختلف بالطبع الإجابات طبقًا أيضًا لطبيعة المتلقي والبيئة التى نشأ فيها وتشكل فيها وعيه، والواقع أن تعدد الإجابات بهذه الصورة هو شيء طبيعي؛ لأن السؤال في كلتا الحالتين يتعلق بالهُويَّة، التى هى وجود وماهية.
ويؤكد "أنتونى فيرجر وآخرون " أن العولمة تؤثر بشكل حتمي إيجابًا أو سلبًا علي واضعي السياسات التعليمية ومتخذي القرار التعليمي على المستوى الوطني للدول، وبصفة خاصة الدول النامية الفقيرة والضعيفة، التي تكون مضطرة في كثير من الأحيان للالتزام بما تفرضه المؤسسات الدولية -المانحة والممولة لمشروعات السياسات التعليمية - من شروط مباشرة وصريحة أو غير مباشرة من خلال الدفع بخبراء واستشاريين دوليين للمشاركة في رسم السياسات التعليمية في تلك الدول كشرط للتمويل والتعاون، ويذهب فيرجر وزملاؤه إلى أن واضعي السياسات التعليمية في الدول النامية يجب أن يكونوا هم أصحاب القول الفصل في رسم السياسات التعليمية لبلادهم حتى وإن كان لا مفر من إعطائها البعد العولمي الذي لم يعد منه مفر بسبب ثورة الاتصالات وحرية انتقال العمالة بين الدول بعد توقيع اتفاقية الجاتس، ويؤكدون على أهمية وجود البعد المحلي والوطني تراثيًا وثقافيًا وحضاريًا وإنسانيًا في كل مكونات السياسات التعليمية الوطنية حتى مع دمجها في البعد العولمي.
ولمواجهة خطر العولمة والمحافظة على الهُويَّة العربية؛ فإن الأمر يتطلب منا نحن العرب أن نسلك دروبًا ونبذل جهودًا؛ أولها التشبث بالهوية والمحافظة على مفهوم الدولة الوطنية والمبادرة والسعى نحو بناء وحدة قومية عربية تحافظ على الهوية وتعتمد مبدأ التكامل وتبادل المنافع والمصالح، وتتبنى منهج الإبداع الذاتي عبر إعادة الطلاب والمعلمين إلى المدارس، وكذا التعاون والاعتماد المتبادل مع الآخر من مبدأ الندية والمعاملة بالمثل، ومن ثم التحول من الاستهلاك إلى الإنتاج ومن الاستيراد إلى التصدير ومن الجواب عن سؤال: ما العربي؟ على أنه "كيان خطي أو استاتيكي جامد" إلى: "كونه هوية ديناميكية قادرة على التفاعل والتأثير والتأثر مع محيطها والخروج من جلبات القابعين في مدرجات المتفرجين".
وحيث إن فعالية أي سياسة تعتمد على تنفيذها، فإن الأمر يتطلب العديد من المبادرات والإجراءات، التي يجب أن تتخذها جهات متعددة بشكل متزامن وبطريقة منهجية، منها قطاعات وإدارات ديوان عام الوزارة ، والمديريات والإدارات التعليمية بالمحافظات ، والمجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعى ، والمراكز البحثية التابعة للوزارة ، ونقابة المعلمين ، والمجلس الأعلى للآباء والمعلمين والمجلس الأعلى للجامعات ، والمدارس والجامعات من أجل ضمان أن يتم تنفيذ السياسة بروحها وهدفها، من خلال الاتساق في التخطيط والتآزر عبر كل هذه الهيئات المشاركة في التعليم، وتأسيسًا على ذلك ، تكون السياسة التعليمية في أي نظام تعليمي عملية مهمة وضرورية؛ لأنها تكون بمثابة موجهات لهذا النظام من حيث: أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها، والخطط والأنشطة والبرامج التي يقدمها من خلال مراحله التعليمية المختلفة، والعمل على تنفيذها وتقييمها، وما يتعلق بها من قرارات لتطويرها .
- أستاذ التخطيط التربوى والإدارة التعليمية ووزير التربية والتعليم والتعليم الفني السابق