بروهم قبل أن تفقدوهم
مسألة مهمة مصحوبة بدموع ساخنة وقلوب موجوعة وحسرة على ماض ولى وعودته ثانيا من الأوهام والأحلام ، وقبل الاستطراد في الحديث أقدم لقارئي أصل الحكاية من البداية للنهاية.
على مقعدها جلست الأم كعادتها ومدت يدها إلى كوب اللبن القريب منها ولكن يدها ارتعشت فاهتز الكوب في يدها وسقط علي الأرض وانكسر الكوب باللبن، فصرخ ابنها في وجهها وعاد إلى غرفته وبعد دقائق هدأ الابن وخرج إلى أمه وهو عازم أن يعتذر لها ويقبل يدها فوجد في يدها رسالة كانت قد كتبتها له وهذا نصها:
" ابني وحبيبي وقرة عيني أنا آسفة فقد أصبحت عجوزة ترتعش يداي فيسقط طعامي علي صدري، ولم أعد أنيقة وجميلة طيبة الرائحة، فلا تلمني يا حبيبي فلم أعد قادرة حتي علي لبس ثيابي أو حذائي، فساعداي وقدماي لا تستطيع حملي حتي إلى الحمام فامسك بيدي وتذكر كم أمسكت بيديك وأنت صغير تتعلم المشي ولم أمل من ذلك يوما قط فلا تمل انت من ضعف ذاكرتي وبطء كلماتي، وكل سعادتي الآن أن أكون معك، فضحكتك كانت تسعدني، فلا تحرمني من ابتسامتك الآن فأنا ببساطة أنتظر الموت، فقد كنت معك حين ولدتك، فلا تحرمني من قربك مني حين أموت. مسح الابن دموعه في طرف ثياب أمه وأخذ يقبل يدها وقال لها سامحينى.. ولكن كانت يدها باردة جدًا فقد فارقت الحياة، وهنا ظهرت أمامه الكلمات الذهبية التي كتبت نصها "بروهم قبل أن تفقدوهم"•
كانت كلمات قصيرة جدًا، بروهم قبل أن تفقدوهم، ولكن لها عمق في المعنى وفي المغزى، وهنا يأتي قول رجل عظيم اختبر ودرس وعاشر أسرته الكبيرة واتخذ طريق الحكمة فترك مقولته عبر العصور "اسمع لأبيك الذي ولدك ولا تحتقر أمك إذا شاخت، اقتنِ الحق ولا تبعه، والحكمة والأدب والفهم، وجه فكرك إلى الأدب، وأذنيك الي كلمات المعرفة، لا تمنع التأديب عن أولادك بالحكمة، لا تحسد أهل الشر ولا تشتهى أن تكون معهم، لأن قلبهم يميل إلى الاغتصاب وشفاههم تتكلم بالعوج.
بالحكمة والأدب تبنى العائلة وبالعلم تبنى الممالك، تجنب فكر الحماقة، أنقذ من وقع في حفرة وإن أحسنت فأزل الحفرة مهما كلفك ذلك، فقد يسقط فيها أولادك، لا تفرح بسقوط عدوك، ولا يبتهج قلبك إذا عثر، وهذه هي الشهامة والحكمة والمروءة، لا تغر من الشرير ولا تحسد الأثمة، لأنهم إلى حين وبعده الزوال، وتستمر الأم الحكيمة في نصائحها لابنها "كن حكيما وفرح قلبي والحكيم يبصر الشر والخطر فيتوارى"، الحديد بالحديد يحدد والإنسان يحدد وجه صاحبه، السالك بالكمال ينجح في كل طرقه والملتوي يسقط حتما، الأمين كثير الخيرات والمستعجل إلى الغنى لا ينجح، من يعطي الفقير لا يحتاج ومن يحجب عنه فعليه لعنات كثيرة.
ثم يردد الحكيم مقولته " أربعة هي الأصغر في الأرض ولكنها حكيمة جدًا، النمل طائفة غير قوية ولكنه يعد طعامه في الصيف،
الوبار طائفة ضعيفة لكنها تضع بيوتها في الصخر، الجراد ليس له ملك لكنه يخرج كله فرقا، فرقا، العنكبوت تمسك بيديها وهى في قصور الملوك.
وتتعدد الأمثلة وهي تشبه دار تعليم تصلح لكل الأعمار ولا تقتصر على تعليم أطفالنا بل يحتاج إليها الأباء والأمهات حتى ندرك كيف نعلم أولادنا لا بالكلام توددًا ولا بالتهديد والوعيد أو بالعصا والحرمان، بل بالقدوة والأمان، فأطفالنا يقلدون الأبوين في كل كبيرة وكل صغيرة، فما نطلبه من أولادنا علينا أن نسلكه حتى يتعلم الطفل من أبويه وما يفعله المعلم أكثر تأثيرًا في تلاميذه من الدرس حفظا أو فهما، ومع ختام هذا المقال أكرر عنوانه: بروهم قبل أن تفقدوهم، وبالبر والقدوة الحسنة نربي أولادنا ونصلح أحوال بلادنا، بل ونعلم من حولنا لا بالتهديد والوعيد، بل بالصدق والحق نبني بلادنا ونعلم من حولنا.