إلى أين ستمضى الميليشيات المدعومة من إيران؟
الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران، التى تدار فى كثير من خطط عملها من قبل «الحرس الثورى» الإيرانى، موجودة فى أربعة بلدان عربية، وليس خافيًا قدر التعقيد والتهديد الذى تمارسه داخل هذه البلاد. لكل واحدة من تلك البلدان سيناريو العمل وحجم الانخراط ومدى النفوذ والتأثير الذى تحظى به هذه الميليشيات، لكن بطبيعة الجغرافيا ووفق التركيب المتشابك للعلاقة ما بين إيران والعراق، تظل الأخيرة صاحبة الساحة الأكثر أهمية بالنسبة للنشاط الإيرانى، دون خصم من أهمية البلدان الأخرى. فهناك تنوع كبير لأنماط الاهتمام والاستهداف الإيرانى، يصعب خلاله قياس مقدار التفضيل أو ترتيب الأهمية بالنسبة لطهران، حيث تبدو البلدان الأربعة كحزمة متكاملة يصعب فصلها بالنظر إلى استراتيجية المشروع الإيرانى بالمنطقة.
لذلك جاءت العراق، التى نضعها فى صدارة هذا المشروع، وهى محملة بحزمتها الخاصة من التشابك والتحديات الأمنية والسياسية، التى نتناولها من زاوية تواجد فصيل متنوع من الميليشيات المسلحة على أراضيها منذ سنوات. الفصل الأحدث لهذا التواجد مقرونًا بأوضاع وطبيعة عمل الميليشيات، شهد ما يمكن اعتباره «فصلًا جديدًا» انتقل بها إلى طبيعة مختلفة، فيما بعد مقتل «قاسم سليمانى» و«أبومهدى المهندس» على يد الأمريكيين. فكلاهما كان قيادة استثنائية، الأول مثل دور التخطيط والإدارة الإيرانية للعناصر الموالية العاملة خارج حدود دولته، والثانى له من اسمه نصيب فى مهمة «هندسة» العمل ما بين الفصائل المتنوعة والمتعددة، ورسم مسارات حركتها ونفوذها على أرض السياسة والأمن العراقى. أول ملامح الفصل الجديد الذى بدأت الفصائل والكيانات فى صياغته، واستغرق فى تكوينه نحو عام كامل تفصله عن واقعة مقتل القائدين، هو تشكيل ما أسمته بـ«الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية» معتبرة فعل المقاومة المقصود إبرازه، موجهًا ضد التواجد العسكرى الغربى فى العراق، وهو فى حقيقة الأمر متمثل فى الولايات المتحدة بصورة حصرية. فهناك على سبيل المثال؛ تواجد عسكرى تركى فى العراق، ممثل فى قاعدة «بعشيقة» وعدد من نقاط الارتكاز العسكرى الملحق بالقاعدة ويقع بالقرب من خطوط التماس، بين المحافظات التى تتبع المركز العراقى فى بغداد وبين حدود إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتى.
هذا النموذج التركى لا يشكل تناقضًا بالمطلق، مع مكونات «الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية»، فلم يرتكب بحقها أى عمليات عسكرية أو موقف سياسى عبر أذرعة الهيئة السياسية، التى تمتلك أصواتًا مهمة وحاضرة فى صناعة القرار العراقى. وهى فى هذا الإطار تسجل موقفًا مبدئيًا واضحًا، يستند فى مرجعيته على رؤية وحسابات إيران صاحبة المشروع الذى تتبعه، ملخصه أن فوهات البنادق والمواقف مقصورة على الولايات المتحدة، فى الوقت الذى تعطى فيه مساحات أمام المشروع التركى الموازى. ويمثل هذا التصور إحدى أمارات التشابك الذى يصنعه التواجد الميليشياتى، لأنه بطبيعة الحال سرعان ما جرى استخدامه داخل مربع الصراع الإيرانى الأمريكى الأوسع، حيث خضعت الميليشيات على سبيل المثال طوال العام الماضى والأخير من حكم إدارة دونالد ترامب لترمومتر الحرارة الذى تحكمت فيه إيران صعودًا وهبوطًا دون إعطاء بال لمعادلة الأمن العراقى. فهى بدأت العام بدرجة عالية من السخونة مع محاولة اقتحام السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء، وامتد ليشمل فصول القصف الصاروخى على السفارة وأهداف بالمنطقة الخضراء، وصولًا لمرحلة تقييد الفعل فى ذكرى مقتل قادة الميليشيات. وتستخدم طهران فى هذا الأمر نمطًا من الاحتواء المعلن، كما جرى فى ديسمبر من العام الماضى، حين زار «اللواء إسماعيل قآانى» قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثورى بغداد، للاجتماع بقادة الميليشيات الرئيسية الغاضبة من هذا الارتباك الذى لم يمثل لديها حينئذ فهمًا واضحًا لمساحات الحركة المتاحة أمامها.
بعد هذه السنوات من عمر الميليشيات المسلحة، صارت اليوم داخل «الهيئة التنسيقية» تضم الثلاثة الكبار «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«حركة النجباء». وهناك عشرات غيرها من الفصائل والمسميات الأخرى التى تدور فى فلك الثلاثة الكبار، أو على الأقل يجرى التنسيق الكامل بينها فى حال ذهبت إحداها لتنفيذ عمل مسلح على الأرض، فالهيئة لدقة المرحلة تقوم بما يشبه عمل «غرف العمليات» التى تعمل عبر خطوط ساخنة مع ممثلى طهران فى إيران أو العراق، من أجل ضبط إيقاع العمل العسكرى. على جانب مقابل تنظر الإدارة الأمريكية الجديدة لتلك الميليشيات باعتبارها كيانات على الأقل منفلتة، حتى إيران لو ذهبت إلى تقييدها فلن تنجح على طول الخط. فهى خلال الفترة الماضية وفق التقارير الأمريكية التى رفعت إلى الإدارة الجديدة، قيمت عملها باعتبارها تعمل بنظرية «الحصول على كل شىء» والاستفادة منه فى الوقت عينه، فهى داخليًا تدعى أنها تقف خلف كل العمليات المنفذة على الأرض من أجل الإظهار لمؤيديها أنها ما زالت تمارس «فعل المقاومة»، لكنها تحتفظ بـ«حق الإنكار» كى تتجنب التداعيات السلبية المتمثلة فى الردود العسكرية الأمريكية الجاهزة، مثلما جرى فى ديسمبر من العام الماضى حين استهدفت الغارات الأمريكية خمسة وعشرين فردًا من أفراد ميليشيا «كتائب حزب الله» وقامت بقتلهم.
هذه النظريات التى تعمل وفقها تلك الميليشيات تمثل ملمحًا آخر للتشابك، والتعقيد الذى تقوم على صناعته فى الساحة العراقية، وإدراج البعض من مكوناتها على لائحة المنظمات الإرهابية مثلما يجرى الحديث بشأنه فى واشنطن فيما يخص «قوات الحشد الشعبى»، حينها سيرتب هذا الأمر مسئولية قانونية إضافية على الحكومة العراقية. كما تدرس واشنطن أمرًا آخر، يتمثل فى صياغة سيناريوهات للرد فى حال شاركت الجهات التى تم إثبات ارتكابها عمليات مسلحة ضد القوات الأمريكية، مثل «كتائب حزب الله» أو «عصائب أهل الحق» فى العملية السياسية. خاصة مع قدر التنافس الذى بدا يلوح ما بين قادة هذه المكونات، فكتائب «حزب الله» تعمل جاهدة على تقويض صورة المنافسين المحتملين من وجهة نظرها، فما يجرى منذ شهور مع «فالح فياض» قائد الحشد الشعبى ليس ببعيد عن هذه الدائرة.
لهذا يظل السؤال مطروحًا ومفتوحًا فى آن، حول المدى الذى ستذهب فيه الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران، خاصة فى ظل الإدارة الأمريكية الجديدة وتزامنًا مع مشروع رئيس الوزراء الكاظمى، الذى لديه إلمام واف بجميع تعقيدات المشهد ويملك من الإرادة ما يجعله سيمضى هو الآخر قدمًا فى طريق استرداد مفهوم، سيادة المؤسسات الوطنية المحترفة القادرة على بسط سيطرتها على مجمل المشهد، رغم حجم الأشواك التى يقابلها يوميًا على هذا الطريق الذى اختاره لمشروعه.