فى مديح الدولة المدنية الحديثة
أتابع ردود الأفعال التى صاحبت قضية زواج المسلمة من غير المسلم، التى قالت بها مؤخرًا د. آمنة نصير، حيث أوضحت: «أنه لا يوجد نص صريح يحرم زواج المسلمة من غير المسلم»، لم تكن ردودًا منطقية، تجادل وتستمع وتتأمل الواقع المتغير، بل كانت قنابل من الهجوم متعدد الجهات والأبعاد والأهداف، صاحبته رصاصات من الاستهزاء والتهكم والافتراءات، ووصل الحد إلى تقديم بلاغات لمنع د. آمنة نصير من إعلان آرائها فى الإعلام، لأنها تثير البلبلة وتنشر الفتن وتقسم المجتمع المتماسك وتهدد الأسرة المسلمة وعزوة المسلمين وخطر على إسلام الوطن ومعتقداته الراسخة الصالحة لكل البشر ولكل زمان ومكان، وأنها أنكرت وخالفت «المعلوم من الدين بالضرورة»، مما يوقعها تحت طائلة «ازدراء الأديان».
رجال الدين على اختلافهم اتفقوا على رد الفعل نفسه، أن فتوى د. آمنة نصير كلام فارغ ينم عن الجهل وعدم إدراك عواقب الأمور، هذا بالطبع غير التعليقات الغاضبة المتهمة السائرة على النهج نفسه فى مواقع التواصل الاجتماعى، التى أصبحت مخترقة بجنود الدولة الدينية وأصحاب الإرهاب الفكرى، وأصحاب اللغة المتخصصة فى الشتائم والألفاظ البذيئة. إذا كانت د. آمنة نصير، امرأة مسلمة محجبة، أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، ونائبة فى البرلمان المصرى، وينالها كل هذا الهجوم المتعدد من أشخاص يعتقدون أنهم «أفضل» و«أعلم» و«أكثر إدراكًا» منها فى التفكير ومقاصد الدين وحماية الإسلام والأسرة المسلمة وعزوة المسلمين، فأين إذن الأمل فى إعمال العقل وتجديد الخطاب الدينى وتحقيق مكارم الأخلاق؟
منذ نهايات عام ٢٠١٤، ومطالبة الرئيس السيسى بضرورة تجديد الخطاب الدينى لم يحدث إنجاز واحد، وكأن هذه المؤسسات المستأمنة على خير الوطن ونهضته وتقدمه لا يعنيها خير الوطن ولا نهضته ولا تقدمه.
ثبت بمرور الوقت وبكيفية تفاعلها مع الأحداث أنها لا يعنيها إلا الثبات، وتكرار السلف، ومعاداة العقل المفكر، واتهام النقد المسالم، ورفع دعاوى ضد منْ يجرؤ على السباحة ضد التيار.
أوضحت د. آمنة نصير أنه لا يوجد نص صريح يحرم زواج المسلمة من غير المسلم طالما أن الزوج غير المسلم لا يمنع زوجته المسلمة من أداء جميع التزاماتها الدينية الإسلامية، بالضبط مثلما الزوج المسلم لا يمنع زوجته غير المسلمة من الابتعاد عن دينها.
كان يكفى هذا الضمان لكل من يهمه جوهر الدين وجوهر الإسلام، أن يرحب بفتوى د. آمنة نصير، وأن يقف إلى جانبها ضد شراسة الهجوم والاتهامات، وإذا كان جوهر الدين وجوهر الإسلام لا يهمهم، ترى ما الذى حقًا يهمهم؟ ما الذى حقًا يحشد كل هذا الهجوم متعدد الأطراف؟ ما الذى يشكل الدافع الرئيسى وراء إحكام الحصار حول هذه الفتوى وصاحبتها؟
نذكر عندما طالب الرئيس السيسى بإلغاء الطلاق الشفهى، إدراكًا منه أنه من العوامل الأساسية لتفكيك وتشريد وتعاسة الأسرة المصرية المسلمة، حيث بكلمة واحدة شفهية يطلق الزوج زوجته ويعرضها للمذلة والهوان هى والأطفال، خاصة إذا كانت فقيرة بلا عمل ومأوى.
أبهرتنى شجاعة رئيس مصر الذى يضرب فى مقتل التوجه الذكورى لسلطة الرجل المطلقة فى قوانين الأحوال الشخصية، وكنت متأكدة أن طلبه سوف يقابل بالرفض المطلق من قبل المؤسسات الدينية الرسمية، وهذا ما حدث بالفعل، لا يهم كرامة الزوجات، لا يهم مستقبل الأطفال، لا تهم العدالة بين الزوج وزوجته فى الحقوق.
لا شىء يهم إلا حماية «سُلطة» الرجل التى لا يخدشها شىء، التى تفترس من يواجهها بكل الأسلحة دون هوادة. فحقوق الرجال «مقدسة» وحقوق النساء «مدنسة».
قراءة الواقع تؤكد لنا، شئنا أم أبينا، أن تجديد الخطاب الدينى فى قوانين الأحوال الشخصية مستحيل، وأنه أرض ممتلئة بالألغام تنفجر فى وجوهنا من حين لآخر، يقولون لنا جددوا ولكن بعيدًا عن قوانين الزواج والطلاق.
كيف وقوانين الزواج والطلاق والأحوال الشخصية هى القوانين الوحيدة «الدينية» فى المجتمع وبقية حياتنا تنظمها القوانين المدنية؟ إذن الحل هو إقرار زواج «مدنى» موحد لكل المصريات والمصريين.. زواج مدنى يحقق العدالة بين الزوج والزوجة فى الحقوق، زواج مدنى يتغير بزيادة رقى وعى الناس وزيادة رغبتهم فى بناء أسرة سعيدة قوية متماسكة. الزواج المدنى لا يحقق فقط مبدأ «المواطنة» من الجذور، ويضع الوحدة الوطنية مدعمة بأهم قانون فى الحياة، لكنه أيضًا حماية للحاضر والمستقبل، حيث يقطع الطريق إلى الأبد على من لا نعرفهم، أو نعرفهم، الذين يزايدون على الدين لإعاقة هذا الوطن من التقدم وحماية وجودهم ومصالحهم وتسلطهم على العقول.
هؤلاء كم يكرهون الرقى الحضارى، كم يكرهون العدالة، وكم يكرهون النساء، الشعب المصرى له لغة واحدة وتاريخ واحد وهموم واحدة ومناسبات وطنية واحدة، له برلمان واحد ورئيس واحد، كيف ولماذا لا يكون له قانون زواج مدنى واحد؟ إنه الطريق السريع المختصر لقوة الوطن وتماسك الأسرة المصرية وكسر الذكورية.