وا حسرتاه على سويسرا الشرق (لبنان)
لم يغب عن بالنا بالمطلق ما كنا نطلقه على لبنان سويسرا الشرق الأوسط، لا نحصر عدد الزيارات إليه في مختلف فصول السنة سواء كانت الرحلة بالطائرة، ومرات وعلي سبيل النزهة قطعناها بالباخرة من الإسكندرية إلي بيروت، وفي كل مرة كنا نجوب من زحلة وجبال بيروت وحتي سوق سرسق للتبضع والفرجة، وأذكر موقفًا لم يغب عن الذاكرة وأنا أشاهد رجلًا سبقت ردوده دموعه عندما سألته عن سر آهاته وكان مصريًا، فقال لقد أتيت للتسوق ولكن ورقة مالية بمائة دولار هي كل ما كنت أريد التبضع به، وقد اكتشف البائع أن الورقة مزورة وليست عملة صحيحة، فكان مبلغًا كهذا كافٍ للتبضع، فالليرة اللبنانية قيمتها- حين كنا نستخدم أجزاء من الليرة - قيمة عالية، بل كنا نحولها إلي عملات أصغر معدنية نسميها قروشًا.
كنا نشبّه جبال لبنان بجبال الألب بسويسرا، كان الشارع اللبناني يحسده الزائرون لنظافته وجماله حتي لا يمل الزائر من المشي فيه والتبضع منه، وكانت المشكلة هي مفردات اللغة التي كنا لا نفهم الكثير منها وعلي سبيل الفكاهة ما حدث معي علي الحدود من سوريا إلي بيروت حين سألني مسئول الجمارك: "بتحمل شراشف؟". فسألته عما يقصد بالشراشف فقال: "ما بتعرف الشرشف فوق التخت؟ قلت له وما هو التخت؟ قال: "التخت الذي عليه يوضع الشرشف": فقلت له أنا ل اأعرف الشرشف ولا أعرف ما هو التخت. فالتفت إلىّ أحدهم وسألني: هل أنت مصري؟ فقلت له نعم أنا كذلك، قال: "التخت هو السرير والشرشف هو غطاء يوضع كفراش علي السرير". وهنا فهمت معنى الشرشف والتخت في سوريا وفي لبنان، وعرفنا كذلك كم أن الشرشف في سوريا جميل ورخيص الثمن.
أما المشهد الآخر لبيروت فكان للبنان ما قبل حروبها الأهلية وجمال سياحتها وروعة أسواقها ومساحات حريتها، فلا قيود علي ملابس الفتيات كما في دول أخرى مجاورة، فالحرية متوافرة ولا قيود علي المظهر والملبس، وبعد التغير السكاني سقطت معه الكثير من الحريات في المظهر والملبس وضاع معني سويسرا الشرق، وإلى ذلك بالطبع حجم الزائرين من مختلف دول العالم في الشتاء كما في الصيف، فلم تعد سويسرا الشرق كسويسرا الغرب، كما زاد الطين بلّه الحروب الأهلية الطائفية، وتأثيرات مقيدة لقيادة الدولة وقوانينها حتي نشبت المعارك الداخلية والخلافات الطائفية، كما زاد الأمر وبالًا بظهور كورونا كوباء قتّال هدد العالم كله حتي غطي المرض انتشاره أكثر من عشرين مليون وحدة مرضية، واقترب عدد الوفيات بها إلى نحو مليون نسمة، لكني أري ضياع دولة أكثر خطرًا من الوباء.
ومن حق كل من زار لبنان في شبابها وذاق حلاوة حرياتها وأمنها من الواجب أن تدمع عيناه أمام حادث جلل، انفجار عبوات ناسفة كانت تحفظ بمخازن مرفأ لبنان، لم نعرف حتى كتابة هذا المقال من هو المسئول عن هذا التخزين حتي كثرت الأقاويل، ومنها أنها لإحداث ما تم، وكأن الفاعل تحكمه قسوة قلب ومرارة نفس، انتقامًا غير مبرر وغير عابئ بأرواح بريئة قُتلت تحت أنقاض، إصابات بالآلاف، ومبان لا حصر لها دمرت حتى نسينا كورونا وما تفعله بنا، واهتزت جوارحنا أمام الخطب الجلل الذي دمر وقتل وأصاب أعدادًا ضخمة، وابتلى لبنان بجماله، وحل الخطر والقلق والغضب والحسرة وكل التعبيرات المتاحة من أجل هذا البلد• ونحن علي مر الساعات نتابع الخبر آملين أن تنتهي الغمة وتزول أثار الكارثة ليعود لبنان أو سويسرا الشرق الأوسط إلي سابق عهده كمنفذ لسائر الدول المحيطة والقريبة، بل والبعيدة أيضًا لتاريخها ودورها وشهادة الكتاب المقدس فى قوله: "الصدّيق كالنخلة يزهو كالأرز في لبنان ينمو." فهل من صدّيقين مخلصين؟
لقد بادر مجلس حكومة لبنان بالاستقالة التي تقدم بها الوزير حسام دياب أمام غضب شعبي غامر، ولكن ماذا عن مجلس النواب المنتخب من هذا الشعب، هل سيأخذ ذات المنحى الذي اتخذته الحكومة؟
ومن متابعة الأخبار يتبين أن كثيرًا من دول الشرق ودول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت أنها لن تترك الشعب اللبناني منفردًا في معاناته ويطالب بسرعة إجراء انتخابات نيابية بديلة تشكل جبهة معارضة قوية تؤدي إلي تصحيح الأوضاع.
أما عن مواقف دول الغرب وضرورة اتخاذ مواقف عاجلة لرأب الصدع وللظروف السياسية في الوقت الحاضر يتحتم على جميع الجبهات أن تضع الصالح العام ورأب التصدع الذي قد يؤدى إلى انهيار عاجل لا ينفع معه الندم بعد وقوع ما يقرب من العدم.
ختامًا أذكر كل الاطراف أن لبنان أمانة في عنق كل الأحزاب والأقطاب إن لم يتجاوزوا الحزبية والعدوانية والانفرادية، فإن سقوط لبنان أو استمرار تدهور الأوضاع فيها سيكون هو الوباء - ليس كوباء كورونا الذي يسعي العالم للوصول إلي الدواء الذي يقضى عليه- لكن سقوط لبنان ذى التاريخ الطويل والجمال الأصيل وسقوط هذا الهرم الكبير جرم خطير لا يبرأه مال ولا رجال، بل سيدينه التاريخ عبر كل الأجيال، كفي ما أصاب البنيان ومن قبله الإنسان، فاحقنوا الدماء ووحدوا الآراء وتنازلوا عن الذاتية والعناد وتصلب الرقاب من أجل وطن ذى تاريخ من يسعي لسقوطه ليمضي قبل الانهيار إلى وضاعة قائمة الخنوع والعار.