كارثة لبنان صفارة إنذار لشعوب كثيرة
الدرس قاسٍ، والمصاب جلل، والخسائر لن تعوض، فقد تَجمع أموالًا وترمم مبانى، ولكن لا رجعة لقتيل من بشر، فطفل واحد سقط من أثر الفاجعة لن تعوضه أموال الدنيا.
وأما العامل الأوحد الذى يمكن أن يعوض هو الجماد، إن كان فى «المبانى أو الطرق أو المرافق، وإن كانت دولة كـ«لبنان» لا طاقة لها بهذه الأحمال الإضافية، فكفاها ما قاسته وتقاسيه من جراء الفساد، والقهر، والعنف والاستغلال والتبجح.
كفاها ما كابدته وتكابده من ملفات الفساد وتهريب عشرات المليارات من الدولارات إلى الخارج، مما أفرغ البنك المركزى من الاحتياطى من العملات الأجنبية، وأدى إلى تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية وإفقار غالبية الشعب اللبنانى وتجويعه بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فبات أكثر من ثلثى شعب لبنان يعيشون تحت خط الفقر.
كفى بعدما كان لبنان بلد الرفاهية والملاذ، والذى ارتبط سيطه بأنه من أفضل بلدان العالم، حين كنا نعده وبحق باريس الشرق أو جنة الله على أرضنا أو سويسرا العرب، فإذ به يتبدل ويسقط سيطه من أعلى مرتفعات لبنان الشاهقة، حتى وتسقط قيمة العملة اللبنانية هى الأخرى، التى كنا نعتبرها أفضل من عملات أخرى كثيرة فى تلك الأزمنة، فأنا أتذكر كنا نركب الباص بما قيمته فى حينه واحد من عشرة من الليرة التى كانت تنافس الدولار الأمريكى.
مَنْ مِنْ البشر لم يهتز ولم تسقط له دمعة وهو يتابع الحدث الجلل المروع، والهلع لفقدان المئات من القتلى، والمصابين بالآلاف، وسقوط أعلى الأبراج وأقواها، ومن لم يهتز حتى لم يتمالك فى حسرته عن التعبير بمختلف لغات العالم معبرًا: خسارتك يا لبنان، أو باريس الشرق أو سويسرا العرب، صاحب الشعب الكريم الباسم المتفائل المقبل على الحياة، نتذكر حين كان يكفى أن تحتوى حافظة نقودك على بضع مئات من الليرات حتى تملأ الحقيبة بما لذ وطاب من خيرات لبنان، وكانت العملة اللبنانية تنافس العملات الغربية فى قيمتها.
هذا فضلًا عن مساحة الحرية التى كان يفتخر بها أسوة بأفضل دول الغرب، وإذ بالحلم ينتهى قبل أن تشرق شمس النهار، فانفجار بهذا الحجم يذكرنى بما حدث قديمًا لهيروشيما، فنقول هيروشيما القرن الواحد والعشرين، مع أن الفارق هنا كبير، فشتان بين الموقعين، فخراب هيروشيما هو ضربة عدو من خارجها، أما بيروت فضربت من داخلها، سلاح خرابها متفجرات ليست من دولة محاربة، بل من مخازنها التى تحولت من مخزن إلى شىء يُخْزِى.
فالسلاح فى يدنا وموقعه فى عقر دارنا وليس من خارجنا، فقد خزنته أيدينا وتركناه ليوم الانفجار، وكل قتلانا من أهلنا وجرحانا نحن وجيراننا.. هكذا تخرج تعبيرات الناجين أو المصابين القادرين على التعبير رغم آلام الجروح وخطورة القروح، لكن لم يعد هناك سر يقيد أطفالنا وشيوخنا عن البوح به، أو لعل الآهات تهدأ إذا ما توصلت الجهات التى تبحث عن الحق، حالة من الفـوضى، ما أدى لفقدان نحو 158 شخصًا وإصـابة أكثر من 6 آلاف آخرين وفق تقديرات رسمية ولكنها غير نهائية.
وتتصاعد الآهات مع دموع الثكلى وأنين المجروحين والمتألمين، كم هى قاسية مشاهد المنازل المتهدمة والبشر الذين وجدوا أنفسهم فى طرفة عين مشردين بلا مأوى، مجردين من كل ما يملكون، يبحثون عمَّن لا يعرفون مكانهم أو مصيرهم من أهلهم، تتوجع قلوبنا لإخوتنا وأهلنا فى لبنان، لبنان الذى يقف على حافة الهاوية فى اللحظة التى من المفترض أن تتكاتف كل الجهود المخلصة فى هذا الوطن للخروج من الكارثة التى كان سببها تدمير الميناء ومساحات شاسعة من حوله، والبدء بالتعافى ولملمة الجراح.
وعودة إلى عنوان هذا المقال، وهو إنذار لشعوب أخرى عليها أن تتخذ حذرها حتى لا تتكرر مثل هذه الأحداث إن بجهل وإهمال أو بقصد وإصرار على إراقة الدماء عشوائيًا، فليمت من يمت، وليحترق من يحترق، وهانت حياة البشر على أنفس القساة وقلوب العصاة وهم يجهلون أو يتجاهلون أن الانتقام لتلك الشعوب لن يسقط بالتقادم، وفوق الكل قصاص الديان العادل، وعندئذ تعلن الحقائق وترد الحقوق ويعلم الجميع أن فوق العالى عاليًا والأعلى فوقهما يلاحظ وصوت الحق يجهر «لى النقمة أنا أجازى»، يقول الديان. وأنتهى بما بدأ به العنوان ليت كل الشعوب تتخذ من الأحداث الجسام درسًا حتى لا تتكرر الويلات والكروب والدمار بالحروب.