مذكرات بونابرتْ
في مثلٍ هذا اليومِ منْ مئتينِ واثنينِ وعشرينَ عامّا. وصلتْ جيوشُ بونابرتْ للقاهرةِ.
ومنذُ عامينِ فقط، وفي تلكَ المناسبةِ، أصدرَ المجلسُ القوميُ للترجمةِ، التابعَ لوزارةِ الثقافةِ كتابَ "مذكراتِ نابليونْ، الحملةُ الفرنسيةُ على مصرَ". ترجمةَ عباسْ أبو غزالة.
رغمَ مئات الكتبِ التي صدرتْ وترجمتْ عنْ نابليونْ بونابرتْ، وكتبتْ عنهُ، على مرةِ التاريخِ. إلا أنَ خصوصيةَ هذا الكتابِ، تنبعُ منْ أنهُ الكتابُ الذي أملاهُ بنفسهِ بونابرتْ وصححهُ أيضا بنفسهِ، ويحمل أفكاره، بعدُ نفيهِ إلى جزيرةِ سانتْ هيلانة.
بالطبعِ نحنُ ننظرُ إلى بونابرتْ باعتبارهِ غازيا ومحتلا، ولمْ يأتِ إلى مصرَ لتنميتها أوْ لنهضتها إلا بمقدارِ ما تخدمُ أهدافهُ، تماما كما فعلَ الإنجليزُ عندما احتلوا مصرُ منْ بعدهِ، بعدُ أنْ لفتَ الأنظارَ إليها.
الكتابُ يعدُ وثيقةَ وشهادةَ واقعيةً على الأحوالِ مصرَ في ذلكَ الوقتِ.
الغريبَ أنَ نابليونْ بونابرتْ تنبأَ بمستقبلِ الحملةِ على مصرَ، بمجردَ أنَ وطئتْ أقدامهُ أرضَ مصرَ، ولحظةُ نزولهِ منْ الباخرةِ الحربيةِ أميرال، التي تحملهُ يومُ 31 يونية 1798 في شاطئ أبي قيرْ ، كانَ البحرُ هائجا ، ووجدَ الجنودُ صعوبةً في الوصولِ إلى القواربِ, وتجاوزِ الصخورِ التي تسدُ ساحلَ الإسكندريةِ ، فغرقَ 19 منْ رجالهِ ، ومدَ الأميرال يدهُ إلى بونابرتْ ليساعدهُ على النزولِ منْ الباخرةِ في قاربِ الإنقاذِ الذي سينقلهُ إلى الشاطئِ ، ولكنَ القاربَ تحرك وأبتعدُ ، وهنا صاحَ بونابرتْ لقدْ تخلى الحظُ عني . وكانتْ نبوء صادقة.
الكتابُ بهِ قدرٌ هائلٌ منْ المعلوماتِ، لا تقلُ أهميةً ولا غزارةً عنْ كتابٍ وصفَ مصرَ، ويتحدثَ بوعيٍ كاملٍ عنْ تصوراتِ الدولةِ العثمانيةِ للغزوِ الفرنسيِ لمصر. الجديدَ في الكتابِ هوَ موقفُ الدولةِ العثمانيةِ المتذبذبِ والضعيفِ في مواجهةِ الحملةِ الفرنسيةِ على أملاكها.
يقولَ بونابرتْ إنَ الدولةَ العثمانيةَ لمْ تكنْ حريصةً على مصرَ، ولا على الشامِ، لأنها أرسلتْ لوالى عكا تطلبُ منهُ أنْ يدافع عنْ نفسهِ في سوريا.
كانتْ الدولةُ العثمانيةُ تخشى ما تخشاهُ غزوُ الجزيرةِ العربيةِ.
لأنَ هذا سيضعفُ موقفها أمامَ روسيا, وقدْ اتخذتْ كلا منْ إنجلترا والنمسا وروسيا ونابولي معا, خطواتٍ لدفعِ البابِ العالي إلى الحربِ ضدَ فرنسا, ولكنَ سلطانْ تركيا رفضَ, وكانَ يدركُ أنهُ إذا دخلَ جنودُ فرنسا في صحاري الجزيرةِ العربيةِ فسوفَ تتعرضُ القسطنطينية إلى كراهيةِ وطمعِ الروسِ, وأرسلَ السلطانُ ضابطٌ يتمتعُ بثقتهِ إلى القاهرةِ, وقابلَ بونابرتْ وعرضَ عليهِ مواقفُ البابِ العالي الحقيقيةِ, وحصلَ فورا على ما طلبهُ, وهوَ أنَ يثبتُ لهُ ملكيةُ المدينةِ المقدسةِ مكةَ, وأنْ يتمَ انتخابُ عثمانيّ أميرَ أغا, وأنْ يجندَ طاقما منْ الفرقةِ المسلمةِ لحراسةِ قافلةِ مكةَ, وأنْ يقدمَ الجنرالُ توضيحاتِ بشأنِ مشروعاتهِ.
اكدْ الضابطِ لبونابرت قرار البابِ العالي بعدمِ اتخاذِ إجراءٍ في عجالةٍ، وقامَ الضابطُ العثمانيُ بالإقامةِ أربعينَ يوما في مقرِ القيادةِ الفرنسيةِ، وكانَ راضيا عما قالهُ شيوخُ القاهرةِ عنْ مشروعاتٍ الفرنسيينَ. وسافرَ إلى بلادهِ.
غيرَ موقفِ الأتراكِ تغيرَ تماما بعدَ أنْ عرفوا بنيةُ الإنجليزِ وتحركهمْ تجاهَ فرنسا لضربِ الأسطولِ. وبعدُ فشلِ حملةِ نابليونْ على عكا. واحتجازَ الإنجليزِ لرسائلِ الفرنسيينَ، وتسليمها إلى الأتراكِ.
بعدها أيقنَ نابليونْ أنَ الأمرَ ليسَ سهلاً، وأنَ ما يخشى منهُ هوَ استيلاءُ الإنجليزِ على مصرَ، وقالَ إنهُ بمجردِ استيلاءِ الإنجليزِ على هذا البلدِ فسوفَ يحتفظونَ بهِ، كما كانوا يهددونَ بذلكَ. وهوَ بالفعلِ ما حدثَ، وبقيَ الأتراكَ في مصرَ. واستيقظتْ الإرادةُ الشعبيةُ، وثارتْ ضدَ الوالي العثمانيِ الذي أرهقهمْ بالضرائبِ لحسابِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ، وفرضوا واليا جديدا، كانَ هوَ محمدا على الرجلِ القويِ الذي هددَ تركيا في عقرِ دارها، ومعَ هذا فقدْ جلبَ أحفادهُ الإنجليزَ الذينَ كانَ يخشاهمْ الفرنسيونَ ولمْ يخرجوا منها في عامِ 1954 , بعدٌ ثورةِ يوليو 1952.