«صائدو الجثث».. حكايات جبر الخواطر وانتشال ما تبقى من عِطر الأحبّة
«فقد ـ أسى ـ انتظار».. مجموعة من المشاعر المتضاربة التي عايشتها أسر ضحايا حادث الغرق بشاطئ النخيل في الإسكندرية والذي أسفر عن غرق 12 شخصًا، واستغرق البحث عنهم قرابة أسبوعين بواسطة فرق الإنقاذ وغواصين متطوعين، كان المشهد مأساويًا وقاسيًا، ففي لحظات تحولت صرخات الضحك على الشاطئ إلى عويل، ولم يسع البحر المشاعر الغاضبة لأهالي الضحايا التي ارتضت بفقد عزيز على النفس مقابل العثور على جثمانه وانتشاله من مقبرة لحمله إلى مقبرة أخرى.
أشخاصًا كالملائكة يظهرون فقط في الشدائد للمساعدة غير منتظرين مقابل لعملهم، هم الغواصين الذين يعرضون حياتهم للخطر واهبين حياتهم وروحهم فداءً لعملهم الإنساني الخيري الذي لطالما يأمنون به، وذلك في مقابل رؤية الرضا في أعين أهالي الغريق الذين يتشبثون بأي شخص يساعدهم في إيجاد ضحيته.
حاورت «الدستور» عدد من الغواصين الذين تطوعوا لمهمة انتشال ضحايا واقعة الغرق بشاطئ النخيل، التي أسفرت عن غرق 12 شخصًا، تم انتشال جثثهم جميعًا ما عدا جثمان واحد فقط لم يظهر بعد لـ "شادي عبد الله" صاحب الـ 17 عامًا، والتي لا تزال فرق الإنقاذ البحري والغواصين تبحث عنه.
ـ عوض: عرفت مرارة الفقد وشعرت بالرضا بعدما انتشلت جثة صديق عمري بإيديمحمد عوض، أحد الغواصين المتطوعين في مهمة البحث عن جثث الغرقى ورئيس لجنة الإنقاذ البحري وحماية البيئة بالإسكندرية ومرسى مطروح، وصف حادث غرق النخيل بأنه الأصعب من نوعه، على الرغم أنه عايش كثير من حوادث الغرق، لأنه كان سببًا في استعادة ذكريات الفقد التي عايشها قبل سنوات من الآن، إذ فقد "جمعة" أعز أصدقائه وعشرة العمر في حادث غرق.
لأول مرة كان يصعب على "عوض" اتخاذ قرار التطوع في الغوص لانتشال جثمان صديقه، مثلما كان صعبًا عليه تصديق خبر غرق صديقه "الغواص"، وعلى قدر صعوبة الموقف الذي وُضع فيه "جمعة" فهو لم يتردد للحظة واحدة عن النزول للبحث عن صديقه وانتشاله بنفسه، وعلى الرغم من قسوة الحادث وأثره السيء على نفس "عوض"، إلا أن غمرته الفرحة عندما عثر على جثمان صديقه لدفنه.
"البحر ملوش كبير".. هكذا علق كبير الغواصين على غرق صديقه الذي كان غواصًا محترفًا، ولكنه مات غريقًا، موضحًا أنه على الرغم من احترافية الغواصين وصعوبة تعرضهم للموت غرقًا، إلا أن خطأ الغواص في المياه بـ "موته"، مرجعًا ذلك كونهم لا يخطأون في المياه بالسهولة، فضلًا عن مهارتهم وخبرتهم في كيفية التعامل مع الموج والدوامات، مشيرًا إلى أن صديقه خرج للصيد في شاطئ النخيل ولكنه لم يعد.
ـ الغزالي: دفنت والدتي وعودت إلى موقع الحادث للبحث عن الجثث تنفيذًا لإرادتهالم يكن سهلًا على مروان الغزالي، رئيس غرفة عمليات الإنقاذ بجمعية الإنقاذ البحري وحماية البيئة بالإسكندرية، وأحد الغواصين المتطوعين، أن يتابع مهمته في البحث عن ضحايا هذا الحادث لانتشال جثثهم؛ لا سيما بعد ازدياد سوء الحالة الصحية لوالدته والتي تعد الداعم الأكبر لـ"مرون" في أداء عمله الخيري.
"جريت على المستشفى ببدلة الغوص".. هكذا كان حال "مروان" الذي انغمس في العمل التطوعي بشاطئ النخيل على مدار الأيام القليلة الماضية، موضحًا أنه في أحد الأيام في منتصف الأسبوع الأول من البحث عن جثامين الضحايا، قد تلقى اتصالًا هاتفيًا من والده بعد خروجه من الماء، يخبره بانتقال والدته إلى المستشفى وضرورة حضوره لرؤيتها، ليذهب "مروان" إلى المستشفى بطاقم الغوص.
في كل مرة كانت تدخل أمي المستشفى كانت تطلب مني الذهاب إلى عملي الخيري ومساعدة الناس لإيجاد فقيدهم لأنها بخير ومجرد ساعات وستعود إلى منزلنا، ولكن هذه المرة رحلت أمي ولم تعد إلى المنزل كعادتها، كانت الداعم الأكبر لي وستكون كذلك دائمًا، لذا بعد إتمام مراسم الدفن عدت مجددًا إلى موقع حادث الغرق بشاطئ النخيل لاستكمال مسيرة البحث، وحفاظًا على وعدي مع والدتي الذي عاهدناه من زمن بـ "جبر خواطر" الناس ومساعدتهم، بحسب حديث "مروان".
"فاقد الشيء يعطيه.. وبقوة".. هكذا كان المشهد في شاطئ النخيل بعد إصرار "مروان" على العودة للبحث عن الغرقى، ففي الوقت الذي كان يحتاج "مروان" فيه إلى الدعم والمساندة على فقد والدته، كان هو الداعم الأكبر لأسر ضحايا الغرقى، تنفيذًا لإرادة والدته وتشجيعها المستمر له بعدم التوقف عن استغلال إمكانياته واحترافيته في الغوص في مساعدة أهالي الغرقى.
كاد "مروان" أن يتعرض للهلاك هو وفريقه أثناء البحث عن ضحايا النخيل، كان البحر حينها مضطربًا للغاية ومع ذلك نزل هو وفريقه في محاولة إيجاد بقية الضحايا، وبعد انقضاء فترة البحث المقررة داخل المياه وعند خروج الفريق من البحر لم يستطيعوا وكأن البحر أبى خروجهم.
أوضح رئيس غرفة الإنقاذ البحري: "ساعة ونص بنحاول إننا نخرج مكناش عارفين، كان موتًا مؤكدًا لأن جميع خطط محاولات الخروج من البحر باءت بالفشل حينها، كان الموج بيضرب من كل اتجاه ويخبطنا جامد في حائط الصد من الصخور، لو مكناش موتنا غرقًا كنا هنموت من الارتطام بالحواجر، ولكن بسبب الخبرة بعد إرادة الله خرجنا من البحر في أصعب ساعة ونص مرت عليا أنا وفريقي في حياتنا".
ـ هادي: غرفة الإعدام واليهودي ورأس الشيطان.. أخطر مقابر قاع بحر النخيلهادي غازي، محاميًا ومن أبناء محافظة الإسكندرية تطوع في البحث عن الغرقى لخبرته في الغوص، يرى أن تلك الواقعة هي الأصعب من ضمن جميع حوادث الغرق التي تطوع فيها، نظرًا لمدى قساوة تفاصيلها وتحدي البحر ورفضه انتشال الجثث بسهولة، وبعد طول مدة عملية البحث قرر عدد من غواصين الخير من مختلف المحافظات الساحلية التطوع والقدوم إلى محافظة الإسكندرية للاشتراك والمساعدة في البحث عن الضحايا في البحر.
"بركة القش، المقبرة، اليهودي، غرفة الإعدام، ورأس الشيطان".. تلك هي مسميات الغرف داخل حواجز الصخور في قاع البحر بشاطئ النخيل، سُميت هكذا من قبل الغواصين نظرًا لخطورة كل غرفة منهم ولما ابتلعته تلك الغرف من ضحايا على سنوات مضت، فهذه هي حدود الموت إذ أن كل غرفة منهم بمثابة مقبرة تبتلع من يفكر الاقتراب ودخول حدودها فضلًا عن سحبها أي شخص في محيطها.
الغواص المحترف والشخص العادي عرضة للغرق في هذا الشاطئ، فلم أعاصر واقعة كهذه قط، ولم أرى البحر مضطربًا كالذي رأيته في بحر النخيل، فمبجرد ما تلمس المياه وأنت لا تزال على الشاطئ يسحبك البحر بقوة غير طبيعية إلى الداخل، فكل من يفكر في النزول إلى شاطئ النخيل فهو هالك لا محالة، يقولها "هادي".
تتجلى الإنسانيات في هذه الشدائد لتظهر أفضل ما في الإنسان وأسوأ ما فيه على حد سواء، فبعد مرور أيام من وقت وقوع الحادث تردد على قرية النخيل جميع أهالي الضحايا وذوي هذه الأسر لمواستهم، ومع طول مدة البحث التي لا تزال مستمرة إلى وقتنا هذا، استقبل ملاك القرية هؤلاء الأسر في منازلهم وشققهم ولم يتردد أو يتوان أحد منهم في استقبال أسر الضحايا القادمين من محافظات ومناطق مختلفة في أنحاء الجمهورية.
ـ رأفت: نعلم أن البحث في بعض الأوقات غير مجديًا ولكن ننزل البحر جبرًا لخاطر أسرة الغريقرأفت محمد توفيق، دكتور بقسم الرياضات المائية كلية التربية الرياضية، الذي تطوع منذ البداية في مهمة البحث عن ضحايا حادث شاطئ النخيل، يقول: "ازاي أكون أستاذ في الجامعة ومدرب غوص معتمد من قبل الاتحاد الدولي للإنقاذ ولم أتطوع في واقعة كهذه مع بقية الغواصين، فبمجرد سماعي عن الحادث ذهبت على الفور إلى الشاطئ بمعدات الغوص الخاصة بي للمشاركة في هذه المهمة الإنسانية".
وعن التحديات والمعوقات التي تواجه الغواص داخل المياه؛ أوضح مدرب الغوص أنه في أوقات كثيرة لم تفهمها أو تستوعبها أسر الضحايا بقدر كافي، إذ أن كل ما يريده أسرة الغريق في ذلك الوقت هو إيجاد الجثمان وانتشاله لإتمام عملية دفنه، ونرى ذلك بوضوح على شكل استفسارات وتساؤلات ترتسم على وجوه ذوي الضحايا، إذ يأبى عقلهم في الوقت الحالي تصديق أو رؤية أي شيء سوى البحث عن فقيدهم، ونحن كغواصين نعلم أن نزولنا البحر من الممكن أن يكون غير مجديًا في بعض الأوقات وعلى الرغم من ذلك نحاول ونعرض حياتنا للخطر من أجل جبر خواطر أهالي الضحايا.
وأكد مدرب الغوص، أن انتشال الغرقى من هذا الشاطئ استغرق وقتًا بسبب عدد من المعوقات المختلفة؛ فالماء في الداخل عكر للغاية نظرًا لوجود مصدرين يتسببان في هذه العكارة وهما ميناء الإسكندرية شرقًا وإحدى المصارف غربًا فالرؤية تكاد تكون منعدمة، بالإضافة إلى اضطراب البحر وسرعة التيار وتلك هي أبسط العوامل التي يحتاجها الغواص للقيام بعمله بشكل طبيعي وآمن التي لم تتوافر.
ـ المالحي: الطبيعة تحكم في مثل هذه الظروف على الرغم من خبرة وكفاءة المنقذين إيهاب المالحي، أحد كبار الغواصين المتطوعين، وصف عملية البحث عن الجثمان الأخير في الوقت الحالي بأنه أمر أشبه بالمستحيل، بل وضرب من ضروب الجنان، مرجعًا ذلك لعدة أسباب أبرزها ارتفاع موج البحر وسرعة التيار وهي الحالة التي يُعرف البحر فيها بأنه "ملتم"، موضحًا: "أنا مسئول عن فريق الغواصين ومقدرش أعطي أوامر بالبحث في ظل الظروف دي، دا ممكن يعرض حياة الغواص للخطر وبدل ما يكون بيدور على جثمان هننزل احنا ندور عليه لا قدر الله".
الخبرة تحكم في مثل هذه الوقائع الصعبة، إذ أن انتشال الجثث والضحايا من بين الحواجز أمر قد يعرض حياة الغواص إلى الخطر، حتى وإن كان على قدر من الخبرة والاحترافية فهنا الطبيعة هي الأقوى بل وهي التي تحكم، لأن حواجز البحر التي تأسيسها بالصخور تندفع المياه والتيارات فيها من كل جانب، لذا تم وقف عملية البحث لمدة يومين وذلك لوجود توقعات بهدوء البحر بدايةً من الجمعة، بحسب حديث "المالحي".
"كنا كل يوم بنشتغل بخطة بحث جديدة وبنقرأ الفاتحة قبل ما ننزل".. يقولها المالحي واصفًا بداية يوم البحث عن الضحايا لا سيما عن الجثمان الأخير الذي ظهر بعد حوالي أسبوعين من الحادث، موضحًا: "البحر دا تحديدًا خطر على الغواصين على الرغم من أن لديهم كافة الإمكانيات التي تؤهلهم للغوص في أي مكان، فما بالك بالمواطنين والأشخاص العاديين، النخيل مبقاش شاطئ يمكن نزوله للاستمتاع بالمياه والعوم فهو بمثابة مقابر لكل من ينزله، وبنصح كل الناس عدم الذهاب إليه إلى أن تتوفر جميع الاشتراطات ومعايير السلامة البحرية".
ـ جداوي: فوجئنا بقدوم أسرة غريق بلطيم لمواساة أسرة الفقيد "شادي" في النخيلسعيد جداوي، أحد المنقذين المتطوعين، ذكر أنه بعد مرور قرابة أسبوعين على حادث الغرق إلا أنه لا يزال جثمان "شادي" مفقود ولم يظهر، ولكن تم العثور على جثة غريق ظهر يوم الأربعاء الغريق من قبل اثنين غواصين تحت إشراف كبير الغواصين "محمد عوض"، الذي يتابع أحداث شاطئ النخيل، وحتى الآن لم يتم التعرف على ملامح الوجه، ولك سيتم نقله بواسطه سيارة الإسعاف إلى مشرحة "كوم إدكو" ليتم العملية التشريحية والتعرف على الجثة من خلال الـ DNAا.
وقع حادثين الغرق في شاطئ النخيل وبلطيم في آن واحد، حتى أنه أخذ معظمنا يتبادل مهام البحث بين المدينتين خلال الفترة الماضية، إلى أن تم انتشال "نور" غريق بلطيم، وبعدما انتهت أسرته من إجراءات ومراسم الدفن، فوجئنا بمشهد عظيم يُدرس في الإنسانيات بين البشر، إذ جاءت أسرة الغريق "نور" تواسي أسرة "شادي" والبقاء بجانبهم لمواستهم في مشهد جلل يتعلم منه المرء أصول الإنسانية التي افتقدنا الكثير منها الآن.
"احنا كلنا كغواصين أو منقذين موجدين هنا فقط لابتغاء مرضاة الله، لا نرد أي شئ من الأهالي والأسر سوى دعوة نسمعها بعد انتشال فقيدهم وتسليمه لهم، معظمنا تعرض للموت والإصابات في هذه الواقعة، خاصة وأننا ننزل البحر يوميًا من أجل البحث عن الضحايا حتى تم انتشالهم جميعًا، وفقًا لما قاله "الجداوي".
