أحمد البصيلي يكتب: رسالة إلى من فاته الحج
يدرك القارئ الكريم أن موسم الحج هذا العام يأتي في ظروف غاية في الاستثنائية والتخوّف؛ جراء تداعيات الظروف الاحترازية الخاصة بالتعامل مع جائحة فيروس كورونا المستجد العابرة للقارات، الأمر الذي جعل صناع القرار في بلاد الحرمين – يحفظها الله - يقصرون الحج على من يرغب من المقيمين على أرضها فقط، وهو قرار قوبل بتأييد وترحاب من كل الأوساط.
والحق أن الإسلام يأمر المسلم بأن ينظر إلى أقدار الله بعين الرضا والجمال، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ". رواه مسلم.
ولا يخفى عليك أيها القارئ الكريم أن عبادة الحج مرهونة بجملة من المقاصد كغيرها من العبادات، وربنا سبحانه قد ضمّن مقاصد الحج في عبادات أخرى، فمن فاته الحج فليبحث عن مقاصد الحج في شتى ألوان العبادات، فإن أصابها – مع تعذر قيامه بالحج – فله ثواب الحج، وإن تكاسل عنها فهو المحروم، وفي تراثنا الفقهي والأصولي قاعدة مهمة، إليها المرجِع وعليها المستند في هذا الفهم؛ هذه القاعدة تقول: "الأمور بمقاصدها"، بمعنى: أن الله تعالى وضع الشرع لعباده رعاية لمصالحهم، ورفع المشقة عنهم، إلى غير ذلك من مقاصد التكليف ومقاصد المكلَّف. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «نية المؤمن خير من عمله».
وإذا نظرنا إلى مقاصد الحج وجدناها متنوعة ما بين مقاصد عقدية: (إفراد الله بالتلبية وإخلاص التوجه له)، وأخرى تعبُّدية: (أداء المناسك) وأخلاقية: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، ومقاصد نفسية وتربوية: (فيما حدث مع سيدتنا هاجر وسيدنا إبراهيم مع ابنهما سيدنا إسماعيل. وعلى ذلك مدار معظم مناسك الحج)، إضافة إلى مقاصد قيَميَّة: (قيمة التعارف والمساواة والأمن والزهد) ومقاصد اجتماعية: (التكافل والتكاتف، وتبادل المنافع والخبرات بين المسلمين عامة. ليَشهدوا منافع لهم).
والواقع أن الله قد أودع هذه المقاصد بشتى أنواعها، في كثير من العبادات المتاحة لنا يوميا، فمن كان يعبد الله أصَرَّ على الوصول إلى مراده ومرضاته فيما تيسر له من طرائق العبادات، ومن زعم عدم الوصول إلى مرضات الله وتعذّرَ عليه تحقيق مراده بسبب عدم تمكنه من الحج فهو مغرور وليس بمعذور؛ وحجبته العبادة عن المعبود، ووقف بالعبادة عند حدودها الشكلية دون النظر إلى مقاصدها في النفس والخَلْق.
إن من أعظم مقاصد الحج ألا يقع الإنسان أسيرا للمادة أو فريسة للهوى، والإسلام يرشدنا من خلال أول مناسك الحج (وهو الإحرام) أن نتحرر من ربقة الشهوات والماديات، وأن نسمو بأرواحنا فوق المطامع والضغائن؛ لأن كمال الراحة والطمأنينة ومكمن السلامة والسعادة في ألا يتعلق القلب بغير الله، وألا يسأل إلا هو، وألا يستعبد الإنسان نفسه لغرض أو عَرَض، فالغرض مرض، والهوى بلوى، وكفى بالأنانية شقاء وبَليّة.
فيا مَن فاتك الحج هذا العام وكنتَ عازما عليه، تأكد أنك ستجد مقصود الحج في إطعام مسكين، أو إيواء فقير، أو دواء مريض، أو إعانة غارم أو نصرة مظلوم، وفي مأثوراتنا الأدبية المنسوبة لسيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: "لقمةٌ في بطن جائع خير من بناء ألف جامع، وخير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع، وخير ممن قام لله بين ساجد وراكع، وخير ممن صام الدهر والحر واقع، فيــــــا بشرى لمن أطعم الجائع".
لن تُعدم الخير الذي أودعه الله في مناسك الحج؛ لأن تلك المناسك شرعها الله لتؤدي مقصدا في الحياة، فإذا ما فقهت الدرس وعلمت الهدف فلن تتوانى في أن تسارع إلى اللحاق بركب التكافل والتكاتف، الذي أراده ربك منك أن تتعلمه في مناسك الحج، أبشر ياعزيزي فقد هيأ الله لك حجا مبرورا من غير عناء، ويُكتب لك ثواب الحج وأنت في بيتك مع أهلك وأولادك، المهم أن تعمَد إلى المال الذي ادخرته للحج فتصرفه إلى إسعاد الخلق ومرضاة الرب سبحانه، إن ربك قد أوجب عليك حجا من نوع آخر، هو الحج إلى قلوب المنكسرين والمساكين والغارمين، فتكون سببا في تبدّل أحوالهم وتنفيس كرباتهم وقضاء حوائجهم، فيكون جزاؤك مضاعفا، وثوابك محفوظا. والجزاء من جنس العمل.
ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) عند ترجمة "عبد الله بن المبارك"، قال: "خرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته، ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظلم وأخذ ماله، وقتل، فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار. فقال: عد منها عشرين دينارا تكفينا في رجوعنا إلى مرو (اسم مكان) وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع،إنها قصة هامة تشير الى الاهتمام بترتيب الأولويات.
وهذا الأمر ينسحب على كل حركة في الحياة، سواء كان في الخير أو في المباح، لأن الاسلام جاء ليرتب لك حياتك، ولذلك كان الصحابة يكثروا من السؤال عن "أفضل الأعمال" و"أحب الأعمال" و"أحق الناس بحسن صحبتى"، وعليه فلا يجوز أن تذهب لزيارة دار مسنين وتترك زيارة أمك أو أبيك المسنين، وإذا استطعت أن تفعل هذا وذاك فحسن، ولا يصح أن تهتم امرأة بتعليم القرآن وتهمل بيتها، ولا يصح أن تتحرك في الدعوة وتهمل أسرتك، كما لا يصح أن تهتم بعملك جدًا حتى تترقى فيه، وتهمل العبادة.. إن الحج يعلمك ترتيب الأولويات في الشعائر والمشاعر، والعبادات والمعاملات، وأعظم العمل سرور تدخله على قلب إنسان؛ تكشف عنه كَربهُ، أو تقضي عنه دَيْنه، أو تعين ذا الحاجة الملهوف، وإن صنائع المعروف تقي مصارعَ السوء بشهادة رسولنا الكريم صلوات الله عليه وآله.
وإذا كان من مقاصد الحج وأهدافه تثبيت الأخوة الإسلامية وتقويتها، فهو القمة العليا لتكوين الأخوة الإسلامية، وهو الملتقى الأكبر الذي يلتقي فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فما أحوجنا أيها القارئ الكريم إلى تحقيق هذا الدرس في هذا العام ولم يُكتَب لنا الحج، فنتعرف جيراننا وزملائنا بل وأقاربنا ونتواصل معهم وننصحهم ونساعدهم.. وتكون العلاقة بيننا على أمتن ما يكون، من أجل الله وحده لا من أجل مصلحة عارضة أو نزوة عابرة.
وإذا كان من مقاصد الحج أنه يربي الحجيج على حسن الخلق، ويبعث في نفوسهم محاسن الأخلاق، ويغرس في قلوبهم حسن المعاملة، وأنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، فمن انضبط بهذه الآداب وسار عليها، وأخذ القصد منها من غير أن يحج، فليس ببعيد على كرم الله أن يندرج في المستحقين لهذا الشرف الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ”. [متفق عليه].
وإذا فاتتك الصلاة في الحرمين الشريفين فلا تحزن؛ أمَا تعلم أن كثرة الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله فيها أحسن العوض وأجمل العطايا؟! إنها حج من لا يستطيع الحج، وزيارة من لا يملك الزاد والراحلة، كيف لا وقد جعلها الله أنيس المحبين ووقود السالكين وارتواء للعاشقين وسببا في أن يصلي الله وملائكته عليك. يقول أُبَيُّ بن كعب: قلت، يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي (أي بدل دعائي الذي أدعو به لنفسي)، فقال ما شئت، قال: قلت الربع، قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت فالثلثين، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت أجعل لك صلاتي كلها، قال إذن تكفى همك ويغفر ذنبك". أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
إن أبواب الفضل والخير لا تغلق بسبب تعذر الحج، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حَصَرَ فضلَ الله في مناسك الحج، أو قصَرَه على البلد الحرام. ولله في كل قلب ملهوف قِبلة، فاستبقوا الخيرات.. يقول رسول الله ﷺ: إن الله يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك، وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي، رواه مسلم.
فاللهم يارب خذنا إليك مِنَّا، وامنحنا رضاك عنا، ولا تحرمنا خير ما عندك بسوء ما عندنا.
د. أحمد البصيلي، مدرس بكلية الدعوة جامعة الأزهر