رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المذبحة الكبرى.. أسرار جديدة عن «أحداث الاتحادية»

أحداث الاتحادية
أحداث الاتحادية


عندما أحاط المعتصمون بقصر الاتحادية، وبدأت هتافاتهم تعلو ضد الرئيس وجماعته ومرشده، ودقوا على بوابات القصر بعنف، طلب قائد الحرس الجمهورى ووزير الداخلية على التوالى من محمد مرسى ضرورة مغادرة مكتبه وفورًا، وذلك حفاظًا على حياته، فلا أحد يعرف ما يمكن أن تصل إليه الأمور، صحيح أن الحرس الجمهورى لن يسمح لأحد بأن يقتحم القصر، لكنه فى الوقت نفسه لن يتعامل مع المتظاهرين بعنف.
خرج محمد مرسى من الباب الخلفى لقصر الاتحادية، لكنه لم يسلم من غضب المتظاهرين الذين لم يدركوه، لكنهم ألقوا على سيارته الحجارة والأحذية وشيعوه باللعنات والهتافات.
لا أعرف على وجه التحديد فى أى شىء فكر محمد مرسى فى هذه اللحظة؟
هل رأى نهايته أمام عينيه؟
هل تأكد أن هذه الجموع التى بدأت فى الهتاف ضده، لن تكف إلا بعد أن تسقطه؟
هل شعر بالإهانة، فندم على ما فعله، وفكر فى أن يعيد النظر فى إعلانه الدستورى؟
هل تأمل علاقته بجماعته، وأدرك أن ولاءه لها وحدها سيورده موارد التهلكة.. فقرر أن يعيد حساباته؟
لم يفعل محمد مرسى شيئًا من ذلك بالطبع، تمسك بعناده وغيه معتقدًا أن الجماعة سوف تحميه وتنقذه من ورطته.
هنا يمكن توثيق ثلاثة مواقف كاشفة عمَّا حدث.
بعد أن قضى محمد مرسى ليلته فى دار الحرس الجمهورى، طلب من قيادات الحرس أن يفضوا الاعتصام بالقوة، وأنه يريد أن يصل القصر فلا يجد أى متظاهر أمامه، حتى لو تم ذلك بالقوة، وهو ما رفضه رجال الحرس الجمهورى تمامًا.
قالوا له: من المستحيل أن نفض الاعتصام بالقوة، لأن الخسائر ستكون فادحة، ولن يتم إنهاء الأمر بسهولة، خاصة أن المتظاهرين يتواجدون خارج القصر وليس داخله، وهذا ليس من اختصاص الحرس الجمهورى.
رفض مرسى هذا الكلام وطلب طرد من أطلق عليهم «شوية العيال» بالقوة، مبررًا طلبه بأنه لن تكون هناك أى مسئولية على رجال الحرس الجمهورى، لأن ما سيفعلونه سيكون دفاعًا عن النفس.
أصر رجال الحرس الجمهورى على موقفهم، وكل ما فعلوه أن اتجه بعضهم إلى المتظاهرين، وطلبوا منهم أن ينصرفوا من أمام القصر بهدوء، لكنهم رفضوا معللين ذلك بأنهم يتظاهرون سلميًا وهذا من حقهم، وعندما عرف مرسى ما حدث، جن جنونه، وأصر على طلبه بفض الاعتصام بالقوة، لكن رجال الحرس الجمهورى التزموا بأقصى درجات ضبط النفس.
توجه محمد مرسى بعد ذلك إلى وزير الداخلية اللواء أحمد جمال الدين، وطلب منه نفس الطلب: فض اعتصام الاتحادية بالقوة خلال ساعة على الأكثر، لكن اللواء أحمد جمال الدين طلب من محمد مرسى قرارًا مكتوبًا وموقعًا منه بما يريده.
فهم محمد مرسى ما يقصده وزير الداخلية، فهو لا يريد أن يتورط فى فض الاعتصام بالقوة بمجرد أوامر شفهية، فإذا كان الرئيس يريد فض الاعتصام فعليه أن يتحمل المسئولية كاملة عن ذلك.
ما فهمه محمد مرسى لم يكن صحيحًا على الإطلاق، فاللواء أحمد جمال الدين الذى عمل على تحسين صورة جهاز الشرطة، الذى كان قد بدأ يتعافى بعد مواجهته مع الشعب فى ٢٨ يناير ٢٠١١، كان قد قرر ألا يدخل فى مواجهة أخرى مع الشعب، لكنه وضع محمد مرسى فى خانة اليك، كان يعرف أنه لن يجرؤ على كتابة قرار بفض الاعتصام وتوقيعه، ولذلك توعد وزير الداخلية بالعقاب بعد انتهاء الأزمة، وهو ما بدا واضحًا فى اجتماعه مع رفاقه داخل القصر، عندما قال عن وزير الداخلية: الراجل ده ملوش عيش معانا بعد كده.
كان أسعد الالشيخة، نائب رئيس ديوان رئيس الجمهورية، يتابع الموقف مع قيادات الحرس الجمهورى، قال لهم إن لم تتحركوا على وجه السرعة، فسوف نتصرف بطريقتنا، لا بد من تأديب هؤلاء المتظاهرين حتى لا يعودوا مرة أخرى إلى ما فعلوه، وهو ما حدث بالفعل، فعندما كانت سيارات الميكروباص تنقل ميليشيات الإخوان إلى القصر قال لهم: ألم أقل لكم إننا سنتصرف بطريقتنا.
بدا الموقف فارقًا تمامًا.
رجال دولة يعرفون كيف يتصرفون فى مثل هذه المواقف، يريدون أن يستنفدوا كل المحاولات مع المتظاهرين.
ورجال عصابة قرروا أن يفضوا الاعتصام بالقوة مهما كانت النتائج والخسائر، فالمهم عندهم ألا يتجرأ عليهم أحد أبدًا بعد ذلك.
ألقى رجال الإخوان القبض على عدد من المتظاهرين وقاموا بتعذيبهم، ثم رفعوا تقريرًا للجماعة، رفعته بدورها إلى محمد مرسى بأن المتظاهرين حصلوا على أموال من أجل حصار الاتحادية، وهو ما أعلنه مرسى بعد ذلك فى خطاب ألقاه مساء الخميس ٦ ديسمبر مستبقًا تحقيقات النيابة، التى كانت قد بدأت بالفعل فى التحقيقات فجر الخميس دون أن تعلن ما توصلت إليه.
كان أسعد الالشيخة يشرف بنفسه على استجواب المتظاهرين الذين ألقت ميليشيات الجماعة القبض عليهم، ونقل إلى محمد مرسى أن المقبوض عليهم اعترفوا بأنهم تلقوا أموالًا من قيادات المعارضة لتنفيذ مؤامرة ضد الرئيس.
وقبل أن يردد مرسى هذا الكلام مثل الببغاء، خرج رئيس ديوانه السفير محمد رفاعة الطهطاوى يصرح به لوسائل الإعلام المختلفة، وادعى أن اجتماعات جرت فى مركز إعداد القادة بالعجوزة بين أعضاء بالحزب الوطنى ومتظاهرين لتمويل الاعتداء على قصر الاتحادية.
خرج مرسى بعد ذلك فى خطابه ليقول إن قوات الأمن ألقت القبض على أكثر من ٨٠ متورطًا فى أعمال عنف وحمل سلاح، ولم يكن شىء من هذا صحيحًا على الإطلاق لأن ميليشيات الإخوان، هى التى تولت هذه المهمة، وأضاف مرسى أن النيابة العامة قد حققت مع بعضهم، والباقون محتجزون قيد التحقيق بمعرفتها، وأنه من المؤسف أن بعض المقبوض عليهم لديهم روابط عمل واتصال ببعض ممن ينتسبون أو ينسبون أنفسهم إلى القوى السياسية.
استخدم محمد مرسى فى خطابه حيلة مكشوفة، حيث دفع بما سماه الطرف الثالث، قال: لقد رأينا من قبل ذلك حديثًا مجهلًا عن الطرف الثالث فى أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد، ولم يتمكن أحد من التوصل للطرف الثالث، إن هؤلاء المقبوض عليهم تكلموا عنهم وعن ارتباطهم بهم، وإن اعترافات هؤلاء سوف تعلن النيابة نتائجها فى ضوء التحقيقات التى تجرى فى هذه الوقائع المؤسفة مع مرتكبيها والمحرضين عليها ومموليها فى الداخل كانوا أو فى الخارج.
العبث فى هذا المشهد أن جماعة الإخوان قررت إلغاء الدولة، وجعلت من نفسها دولة، فقد قامت ميليشياتها بفض الاعتصام وعذبت المتظاهرين، ثم قامت بالتحقيق معهم بنفسها، ووجهت لهم الاتهام دون أن يكون لمن فعلوا ذلك أى سلطة، فقد جمعوهم إلى جوار بوابات القصر وقاموا بتعذيبهم، وهو ما تم تسجيله وتوثيقه، ومن بين ذلك يمكن أن نراجع فيديو يقوم فيه حازم فاروق منصور، الذى كان نقيبًا لأطباء الأسنان والقيادى بجماعة الإخوان وعضو الحرية والعدالة، وهو يقوم بتعذيب أحد المعتصمين بطريقة بشعة.
وضع محمد مرسى نفسه فى حرج بالغ.
فالنيابة التى تحدث عنها كانت لا تزال تواصل تحقيقاتها فى الأحداث، حيث تلقت نيابة مصر الجديدة الجزئية بلاغًا بوقوع اشتباكات ومصادمات بمحيط قصر الاتحادية نتجت عنها وفاة ٩ أشخاص وإصابة نحو ٣٩١ جريحًا، وبدأت على الفور فى مباشرة التحقيقات وانتقلت إلى المستشفيات لمناظرة جثث المتوفين ومعاينة أماكن الأحداث.
هنا يظهر اسم المستشار مصطفى خاطر، المحامى العام لنيابة شرق القاهرة وقتها، والذى تلقى اتصالًا من النائب العام الإخوانى طلعت عبدالله وهو يباشر عمله فى التحقيقات.
سأل طلعت عبدالله عن مجريات التحقيق وموقف المتهمين؟
فأجابه خاطر بأنه تم ضبط ٩٠ متهمًا على ذمة الأحداث، وأن أفرادًا ينتمون إلى مؤيدى الرئيس هم الذين ألقوا القبض عليهم، وأن التحقيقات جارية معهم.
كانت المفاجأة أن النائب العام طلب من المستشار مصطفى خاطر أن يتعامل بحزم مع المتهمين، خاصة المجموعة التى تم ضبطها واحتجازها بجوار قصر الاتحاية، وكان قد أخبره بأن يتوجه إلى القصر، حيث تم ضبط ٤٩ بلطجيًا وجميعهم محتجزون عند البوابة رقم ٤ الخاصة برئاسة الجمورية، وأنه تم التصديق بمعرفته مع السفير محمد رفاعة الطهطاوى لكى تتوجه النيابة العامة إلى قصر الرئاسة لتسلم هؤلاء المتهمين.
النائب العام فعل أكثر من ذلك، فقد طلب من المستشار مصطفى خاطر أن يحبس المتهمين جميعًا، رغم علمه بأن التحقيقات لم تبدأ معهم بعد.
بعد التحقيقات تأكد للنيابة أن المتهمين تم ضبطهم بمعرفة عناصر ينتمون إلى الإخوان، وأن التحريات أكدت عدم وجود أى أدلة تثبت إدانتهم، ولذلك كان قرار النيابة هو الإفراج عنهم جميعًا، بعد أن ثبت أنه لا توجد أى أدلة من شأنها إصدار قرار حبس للمتهمين، وأن جميع أعضاء فريق التحقيق اتفقوا على إخلاء سبيل جميع المتهمين، ما عدا من ضبطت بحوزته أسلحة نارية، وعددهم أربعة متهمين، ينتمون جميعًا إلى جماعة الإخوان وحلفائها.
جن جنون جماعة الإخوان من قرار النيابة، وبالتبعية جن جنون النائب العام الذى استدعى المستشار مصطفى خاطر ومعه سامح عصام، رئيس النيابة الجزئية، وإبراهيم صالح، رئيس نيابة مصر الجديدة، ووجه لهم لومًا شديدًا على قرارهم، واعتبره سوء تقدير منهم، لأنهم كذبوا رئيس الجمهورية فيما قاله، وبعد أن خرجوا من مكتبه أصدر النائب العام بيانًا قال فيه إنه سيتم حبس كل من توافرت ضده أدلة حتى ممن تم إخلاء سبيلهم.
كان لا بد من عقاب المستشار مصطفى خاطر، فقرر النائب العام انتدابه لنيابة بنى سويف، لكنه لم ينفذ القرار وتقدم بطلب إلى مجلس القضاء الأعلى يطلب فيه إنهاء انتدابه بالنيابة العامة والعودة إلى منصة القضاء، وهو ما رضخ له «نائب الإخوان العام» بعد أن قرر أعضاء الجمعية العمومية لأعضاء النيابة العامة والقضاة تعليق العمل بجميع نيابات الجمهورية لحين تنحى النائب العام المعين، وإقالة أحمد مكى، وزير العدل، وزغلول البلشى، مدير التفتيش القضائى.
كانت هناك وسيلة أخرى من مرسى للخروج من مأزقه.
طلب من قائد الحرس الجمهورى أن يشهد رجاله ضد من سمّاهم المجرمين الذين حاصروا القصر، فقال له قائد الحرس بحياد شديد: النيابة من حقها أن تسأل من تريد ومن تشاء ولكن أنا لن أطلب من أحد أو أرغم أحدًا على الشهادة لصالح أو ضد أحد.