إرضاء الآخر ليس بالمطلق.. ولكن
أجمع علماء النفس، وكذلك خبراء التربية على أن محاولة إرضاء الآخرين بالمطلق تتسبب فى خلق جيل لا يعرف متى يقول لا، وهو ما يتضح مع مراجعة أو متابعة العديد من الآباء والأمهات الذين لم يوفقوا فى تربية الأبناء والبنات عندما ظنوا أن استخدام تعبيرات مثل «نعم وحاضر»، واطلبوا ولو «لبن العصفور»- وبالمناسبة، لا توجد حتى الآن على الأقل، وفى حدود معرفتنا، عصافير تلد وترضع صغارها، بل من المستحيل، وبذلك يكون المقصود بهذه العبارة هو السماح بطلب المستحيل.
بمراجعة بعضٍ من الدراسات وعلى أرض الواقع من خبرات رأينا فقط عبارات طلب المستحيل تأتى من قبيل ما يطلق عليه بعبارة «أطع الأوامر ولو خطأ»، ومن الأمثلة التى أرجو ألا تكون مستخدمة بعد، إذ إنها مثال للخطأ الواضح ومحاولة الإقناع بصحته، أن يمسك القائد قطعة من الحديد ويطلب من الجندى الحديث أن يضعها فى الماء حتى تلين، وعلى الجندى أن يصيح بعبارة «تمام أفندم»، ثم إذا عاد المدرب ليسأله: هل قمت بما أمرت؟ فعليه أن يجيب «تمام أفندم».
وهنا يسأل السائل لماذا هذه الطاعة العمياء؟ وهل من الواجب أن نمارس الكذب مدعين غير الواقع؟، يأتينا الرد بأن الطاعة العسكرية الجهادية والحربية لا تحتمل المجادلة، بل الهدف هو التدريب على الطاعة، فالجندى معرض لأن يقفز؛ ليهبط من ارتفاعات شاهقة بالمظلة دون تردد، ويطلق النار على الهدف دون مراجعة أو مناقشة، فدفعة السلاح أو المدفع تستغرق ثوانى معدودة، والجيوش لا تعرف المجادلة، وذلك عكس ما يحدث فى فصول التعليم، فالمربى عليه أن يشجع طلابه على النقاش والحوار والفهم للوصول إلى الكمال، أو محاولة ذلك، والطالب النابغة هو من يسأل ويناقش ويختلف ويبرر، ليس للوصول إلى الكمال المطلق، فقرار الفكر مفتوح دائمًا، وما كان غير معلوم فى الماضى أصبح من المسلمات فى عصرنا، وإن جاز لمفكر أن يضيف أو يقارن بالأحدث فليفعل.
أما مرضى الكمال، وذوو فكر «ليس فى الإمكان أفضل مما كان»، فهناك من يخرج عليهم بعبارة «كان زمان»، أما الآن فلا قيد على الفكر، لا نهاية للبحث، ويكفينا أن نعلم، بل ونشاهد أناسًا مثلنا نزلوا على سطح القمر، ومن هناك نقلوا لنا صورتهم وهم يمشون على سطحه، وفى الحين ظهر من حاول أن يشتت الفكر ويكتب: «إن ما ترونه ليس من على سطح القمر، لكنه فى مكان ناء غير معروف»، ثم عادوا ليثبتوا بكل الأدلة هبوطهم على سطحه والمشى على أرضه تاركين أثرهم هناك قبل العودة سالمين إلى أرضنا، وأثبتوا للعالم رحلتهم على سطح القمر، بل ونقلوا لنا بعضًا من أحجاره أيضًا.
تظل الأبحاث والاكتشافات مستمرة دون توقف، متطلعين إلى المزيد لقناعة العلماء بأنه ليس للعلم نهاية، لكن فى كل يوم يوجد جديد.
أما مرضى الكمال، إن صح هذا التعبير، فسيظلون فى مواقعهم حتى يشاهدوا أنفسهم فى مؤخرة طابور العلماء، أما رجال العلم والابتكار فلا يرون للطريق نهاية، حيث قد سقط جناح النهاية؛ لتحل مكانه نسور وصقور فى عصر جديد لا يعرف الكمالية فى الاكتشافات العلمية، فمن المحال الوصول إلى الكمال، فالنزعة الكمالية هى نزعة كلامية فقط مع تشابه فى أحرف الكلمتين بلغتنا العربية.
أما أصحاب النزعة الكمالية، فإنهم يقفون فى صفوف المقصرين والخائفين وغير الراضين بما يقدمون مهما بلغ قدره وارتفعت قيمته.
كما تنعكس مشاعر النقص والشعور بالعجز على الأبناء الذين لا يستمتعون بما قدموا فى الوقت الذى فيه يفرحون بما قدموا كخطوات تقدمية تدفع لمزيد من التطوير والتجديد والابتكار الذى لا نهاية له، حتى وإن وصلوا إلى القمر وسجدوا شكرًا على ما وصلوا إليه، والذى لا نهاية له هو الآخر.. ومرة أخرى إن الغد لناظره لقريب.