وائل خورشيد يكتب: هيلين كيلر.. روشتة البحث عن الذات
هي فتاة، ولدت طبيعية، وذكية جدا، وجميلة بالطبع، لأسرة ثرية أمريكية، ولكن أصيبت بمرض في المخ حينما بلغ عمرها 19 شهرا، ما أدى إلى فقدانها السمع والبصر، وهو ما استتبع فقدان القدرة على الكلام. المثير في القصة، أنها تعلمت، وحصلت على دكتوراه، وألفت 18 كتابا!
في الفيلم العظيم (1962 The Miracle Worker) الذي جسد حياة الملهمة والأديبة الأمريكية هيلين كيلر، والتي تحل ذكرى وفاتها 1 يونيو المقبل، استوقفتني عبارة في أحد المشاهد، لأنها مرتبطة بما أريد أن أقول. كانت معلمتها تحاول أن تساعدها للتعرف على البيضة، فقالت لها رفيقة دربها آن سوليفان: «الفرخة ستخرج من بيضتها يوما، أخرجي أنتِ أيضا».
هيلين كان عندها مشكلة كبيرة، وهي أنها لا تعرف الأشياء، فقد فقدت السمع والبصر قبل أن يكون لديها ما يكفي من الإدراك لتميز الأشياء، وبالتالي حينما تتعلم الحروف، فإنها لا تعرف ماذا تعني، فهي لا تعرف ما هو الماء، ولا الأرض، ولم تر السماء ولا أي شيء، وبالتالي تعلمها المعاني لا يعني أن تفهم ما تشير إليه.
وكان عندها مشكلة أخرى، هي لا تسمع، وبالتالي لن تنطق أبدا، فهي لا تعرف الصوت أيضًا، وحتى لا يمكنها الرؤية لتقرأ حركة الشفاه، فإذا كنا نملك خمسة حواس، فإنها تفتقد لثلاثة منهم، وليس لها سوى الشم والإحساس، ولكن وبعد مجهود عظيم، نطقت، وألقت محاضرات، بلغات متعددة!
أزمة معلمة هيلين كيلر الحقيقة مع معلمتها كانت أنها تحاول الوصول لروحها، تحتاج أن تفتح نافذة للنور إلى نفس الطفلة التي لا يمكنها التعامل مع العالم، أرادت لها أن تخرج من داخل سجنها، إلى العالم، وبالطبع نجحت.
كان يكفي هيلين أن تتعلم التواصل، وتعيش حياتها، لكنها لم تكن كذلك، فهي التي قالت: «من يشعر برغبة لا تقاوم في الانطلاق لا يمكنه أبدا أن يرضى بالزحف»، لذلك لم تتوقف أبدا، وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة، وتعلمت شيء لا يجيده حتى المبصرون «الخياطة»، وتعلمت السباحة، وعدد من اللغات، وامتد بها العمر الذي ملأته بكل ما تستطيع حتى توفيت عن عمر 88 عاما.
- «أبواب السعادة كثيرة ولكن أحيانا البشر يقفون عند الباب المغلق ولا ينتبهون إلى الأبواب الأخرى المفتوحة».. هيلين كيلر (1880 - 1968).
في وقت ما كنت أشاهد فيلما، لا أذكر جنسيته، ولكنه كان عن أحد سجون أمريكا اللاتينية، وخلال الأحداث دخل البطل حبس انفرادي، ولكن كان هناك شيء شديد القسوة فيه، وهو أنه متر واحد مكعب! لا يمكنه الوقوف ولا النوم. لست ممن يعانون من فوبيا الأماكن المغلقة، ولكن هل تصورت للحظة فكرة أن لا تستطيع الوقوف، ولا الحركة.. فكرة مهلكة.
هل تتصور شعور نومك داخل تابوت مغلق، لا أتحدث هنا عن الموت، فقط البقاء لبعض الوقت، ولا يمكنك الحركة. العالم الإنجليزي ستيفن هوكينج جرب ذلك! فقد كل شيء في جسده إلا عقله ونظره. تصور أن تكون في هذا الوضع. حاول أن تغضب. جرب أن تثور. هل تشعر بمعنى أنه في لحظة غضبٍ لا يمكنك أن تصرخ، أن تُكسر شيئا، أن تركض، لا يمكنك إلا أن لا تفعل شيئا.
إذا فقدت السيطرة على نفسك للحظة ستتدمر. الذي يجعلنا نغرق حينما نسقط في الماء العميق، هو الهلع الذي يؤدي إلى تشنج، رغم أن الاسترخاء وحده قادر على أن يمهلنا بعض الوقت. مثلا حينما يغرق أحدهم ويذهب المنقذ له، فإنه يضربه على رأسه حتى يفقد الوعي ويسترخي، فيمكنه سحبه للخارج، لأن البديل هو أن يغرقا معا.
أما الأصحاء لديهم هذه الفرصة للخروج، لكسر قشرة البيضة التي تكونت حولنا على مدار السنين. الأزمة أننا لا نعرف بوجودها من الأساس، طالما أننا لدينا أفكار مسبقة تشكلت معنا، فإننا نعتقد أن ما نحن عليه هو الصواب، ليس هناك شيء آخر. روحنا يحكمها ضيق أفق.
في أحد المرات بينما كنت في بروفات مسرحية ما، لا أريد ذكر تفاصيل، كنت أشعر بالخجل، المخرج قال لي يومها ما كنت أشعر به: «انت محبوس جوة نفسك، في عندك طاقة كبيرة انت قافل عليها».. أنا أشعر بذلك جدا.. للآن.
قبل عدة أسابيع، سألت الأصدقاء: «قبل أن أموت أريد أن؟»، ولم أجب على السؤال بشكلٍ عام، والآن أجيب: أريد أن أنفجر.. أن أعبر عن نفسي للعالم جيدا.
نحتاج أن ننفجر، أن ننفذ فعلا ما نريد، ليس ما يجب فقط، لأن ما يجب هو نمط حياة لا يؤدي لأي تطور، أما ما تريد، هو الطريق نحو عوالم أخرى، لك ولغيرك.
- «من يشعر برغبة لا تقاوم في الانطلاق لا يمكنه أبدا أن يرضى بالزحف».. هيلين كيلر.
هذا هو التعارض الحقيقي في حياتنا، بين الطموح الساكن، وبين ما يجب أن يكون لأن الوضع كذا والظروف كذا والعالم كذا(...) هذا هو الانفجار السلبي الذي يحدث بداخلنا ويدمرنا كل يوم، يهدنا هدا.
لا أريد أن أظهر كمن يقدم التنمية البشرية، بينما أن ممن ينتقدونها، لست أحفزكم على بدء مشروع جديد، أو كورسات، إنما أن تبدأ في البحث عن نفسك، وتطلق عنانها، أريد أن أصل إلى أرواحكم، أن أخبركم أن هناك شيء بداخلكم يحتاج أن ينفجر، تحتاج لمرة أن تخلع حذاءك وتركض بسرعة جنونية، ثم ترقص بطريقة هستيرية، وتظل تنفجر وتنفجر.
- «أريد لحظة انفعال.. لحظة حب.. لحظة دهشة.. لحظة معرفة.. لحظة تجعل لحياتي معنى.. إن حياتي من أجل أكل العيش لا معنى لها؛ لأنها مجرد استمرار».. مصطفى محمود من كتاب «لقمة عيش».
نحن مقيدون داخل أنفسنا، نحتاج أن نعبر عن ما يدور بداخلنا جيدا لهذا العالم، لأنها حياة واحدة. قد نشعر أحيانا أننا في ظرفٍ سيئ ليس له مثيل، ولكن صراحة لا أفهم كيف يمكن للإنسان أن يتحرك للأمام دون أن يكون هناك مبرر. إذا لم يكن هناك شيء يدفعك للخلف، فلن تحاول أن ترد الفعل وتدفعه للأمام. السكون التام هو دفعة مستمرة للخلف. الرغبات الداخلية التي لا نعبر عنها بأفعال هي التي تبعدك عن الطريق، وتدمرك، فإما أن تنطلق بغض النظر عن أي شي، وإما لا شيء.
اقتباس أخير لهيلين كيلر: «الإيمان هو القوة التي بها يخرج عالم محطم إلى النور».