وزير الاحتلال التركى بقدميه على الأرض العربية
تستخدم تركيا مؤخرًا مصطلح «المصالح» بديلًا عن فعل قد يبدو منفرًا أو على الأقل يثير الارتياب ويدعو إلى الاستنفار إن أمكن وهو فعل «الاحتلال»، هى فى ذلك تنقل ما كانت تتداوله فى غرف الاجتماعات المغلقة إلى العلن، وترسخ قبوله لدى الرأى العام الإقليمى والدولى بتكرار ترديده، فالغرف والقاعات التى جمعتها بأطراف دولية أخرى مثل روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى ظل مفهومًا لسنوات أن تتداول معها بداخلها كلمة «المصالح» باعتبار أن الأطراف الأخرى لديها مصالحها أيضًا، وطالما تبادلتها مع الجانب التركى، لكن استخدام المصطلح يظل محكومًا عادة بنطاق الاجتماعات، فخروجه للعلن فى تصريحات رسمية على ألسنة المسئولين قد يثير حفيظة الطرف الآخر، وفى بعض الأحيان يستلزم ردًا إعلاميًا كما فى حال «امتلاك القدرة يستدعى الكثير من الفعل على الأرض».
استخدمت أنقرة مصطلح «المصالح» عشرات بل ربما مئات المرات، وهى تتحدث وتفاوض فيما يخص الشأن السورى، وإن ظلت تضع له ستارًا يمكن القبول به- افتراضًا- من خلفها وهو ملاحقة «حزب العمال الكردستانى»، باعتبار التصنيف التركى له كمنظمة إرهابية، وتضع على إثر ذلك مجمل المكون الكردى فى كل من سوريا والعراق داخل ذات «السلة» المزعومة. تحت هذه الذريعة تتواجد تركيا بقوات عسكرية تابعة للجيش التركى فى نقاط معلومة بداخل العراق «قاعدة بعشيقة» العسكرية، وعلى الأراضى السورية قامت تلك القوات بتنفيذ ثلاث عمليات عسكرية موسعة، تمكنت على إثرها من تثبيت وحدات «إدارة» على مساحات واسعة من الشمال السورى. لكن النجاح فى تمرير «المصالح» بعد سنوات من ترديدها واستخدامها لم يقف عند حدود القبول بها بالنسبة لتركيا، فالأخيرة لديها مشروع أكبر من مجرد القبول فى ظرف استثنائى من عمر المنطقة، بهذا المفهوم المطاط المشوب بالكثير من الغموض فى المدى الذى يحكم مكوناته.
هذا المدى أجرت عليه تركيا عملية تطوير مؤخرًا، ما دفعته إلى أن يبدو كـ«احتلال» مكتمل الأركان، متجاوزة فى ذلك كل اعتبارات وضوابط السياسة والسيادة معًا. حيث قام وزير الداخلية التركى «سليمان صويلو» بزيارة الأحد «أول أيام عيد الفطر» إلى موقع قيادة عسكرى تركى يقع فى بلدة «الراعى» بريف حلب، من أجل تقديم التهنئة بالعيد لجنود الجيش التركى المتمركزين فى الأراضى المحتلة بعملية «درع الفرات» غرب نهر الفرات. هذه هى المرة الأولى التى يدخل فيها وزير تركى إلى الأراضى السورية، وأبعد من ذلك أن يصاحب ذلك «الدخول» احتفاء وترويج إعلامى تركى لهذا الأمر بشكل ممنهج، ليضم عشرات الصور التى كان مقصودًا أن تغزو كل المنصات الإعلامية الدولية، وليعلن فى الأخبار المصاحبة لتلك الصور أن هذا الموقع العسكرى يسمى «القيادة التكتيكية» لقوات الجيش التركى المشاركة بعملية «درع الفرات» فقط، دون غيرها من القيادات التى تخص العمليتين الأخريين «غصن الزيتون» و«نبع السلام»، وكلتاهما على أراضى الشمال السورى فى مناطق متاخمة. مقر القيادة العسكرية الذى زاره الوزير التركى جرى إنشاؤه على هذا النحو المتطور، وبقدر التجهيزات و«الاتساع» الذى جاء واضحًا فى الصور المنشورة للزيارة فى نهاية العام ٢٠١٦ بعد أن تمكنت قوات الجيش التركى من الاستيلاء واحتلال بلدات الراعى وجرابلس، ومساحات من الريف والقرى قدرت فى مارس ٢٠١٧، وقت إعلان انتهاء العملية، بنحو ٢٥٠٠ كم مربع من أراضى الشمال الغربى السورى.
وزير الداخلية التركى «سليمان صويلو» أثار قبلًا جدلًا واسعًا، حينما صرح بأن ٦٥٪ من اللاجئين السوريين فى تركيا هم من مناطق «الميثاق الوطنى» وهى المناطق التى تعتبرها تركيا جزءًا ﻻ يتجزأ من أراضيها، منذ أعلن قيام الجمهورية التركية فى مطلع عشرينيات القرن الماضى، حيث تضم تلك المناطق عدة مدن سورية رئيسية من بينها «محافظة حلب» بالكامل، التى تعتبرها تركيا وفقًا للميثاق المذكور ولاية عثمانية جرى اقتطاعها من السيادة التركية لصالح سوريا.
والوزير التركى فى حديثه عن اللاجئين السوريين المشار إليهم هو هنا يقصد قرابة «٢ مليون سورى» موجودين بالفعل داخل الأراضى التركية منذ العام ٢٠١٢، وهو رقم ضخم بالطبع وخزان بشرى هائل تضع له أنقرة طوال الوقت العديد من سيناريوهات استغلاله.
أحد أشهر هذه السيناريوهات أنه جرى استخدامه فى الحصول على إعانات مالية من منظمة الاتحاد الأوروبى، بقيمة تراوحت ما بين ٣ مليارات دولار و١٠ مليارات فى اتفاقية قدرت حجم المنح التى ستعطى لأنقرة من أجل الإنفاق على معسكرات اللاجئين، بما قيمته ١٥ مليار دولار على دفعات سنوية. ولاحقًا بعد نشوب أزمات بين تركيا ودول الاتحاد استخدم البعض من هؤلاء كسلاح ابتزاز بشرى فى موجات الهجرة المتتابعة التى أمطرت أنقرة سواحل وحدود الدول بنذر يسير منها، فقط بأرقام «عشرات الآلاف» لكنهم كانوا قادرين على إحداث إرباك هائل لدول الاتحاد التى ما لبثت أن تعالت صرخاتها.
بالعودة إلى مصطلحات «المصالح» و«الاحتلال» الماثل اليوم للعيان، وفق الأول ظلت تركيا تروج لـ«عملية درع الفرات» باعتبارها فقط تستهدف حرمان الكانتونات الكردية بالأخص فى منطقة شرق «جرابلس» من التوحد فى كيان واحد، باعتبار أن ذلك يمثل أولوية تركية تمامًا كإزاحة قوات حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى إلى شرق الفرات. لكن الأمر بالطبع لم يقف عند حد هذه الذريعة رغم تجاوزها فى الأصل لمفهوم السيادة، ليجرى بمرور السنوات تحويل المشهد على الأرض لفعل «احتلال» صريح صاحبته وحدات لإدارة تلك المناطق. فمنذ هذا التاريخ ومن داخل هذه المراكز القيادية التى زارها الوزير التركى مؤخرًا، يتم تسليم تلك المناطق-والتسكين بداخلها- للميليشيات التى دخلت مع الجيش التركى النظامى، وجرى التوسع فى العناصر المنضوية بصفوفها استغلالًا لضائقة حياتهم المعيشية والأمنية، أشهر تلك الميليشيات «فرقة السلطان مراد» و«لواء محمد الفاتح» و«فرقة الحمزة» و«لواء المعتصم» و«حركة نورالدين الزنكى»، تقدر الأعداد داخل كل فصيل بنحو «٥٠٠٠ مقاتل» فى أقل الإحصاءات المعلنة.